د.عبد الرحمن الحبيب
باغوز بلدة صغيرة نائية على ضفاف نهر الفرات في أقصى الصحراء الشرقية لسوريا، صارت فجأة في مقدمة أخبار العالم، حين غادرها مقاتلو داعش عبر قافلة من شاحنات قيل إنها «لنقل الأغنام»، سارت مترنحة ببطء ثقيل تتسلل في أعماق الصحاري مجهولة المصير.. الدواعش طأطأوا رؤوسهم وخبأوا وجوههم ملفوفة بالكوفيات الزاهية الألوان، وهم يحدقون بالجنود الأكراد صامتين بعد سنوات من معارك طاحنة بين الطرفين.. معظم الأطفال المحظوظين بالنجاة والفرار ابتسموا وهم يمرون أمام «قوات سوريا الديمقراطية» أثناء مغادرتهم البلدة.. صبي صغير أومأ بعلامة النصر، حسبما رصدته بيتان مكيرنان مراسلة الجارديان البريطانية..
إنه المشهد الأخير لبقايا دولة داعش، فمع تقدم «قوات سوريا الديمقراطية» على طول نهر الفرات باتجاه الحدود الشرقية، أُجبِر مقاتلو داعش على التقهقر من قرية إثر أخرى حتى وصلوا باغوز المتاخمة للحدود العراقية، وسُدَّ الطريق أمامهم، وتم تطويقهم بكماشة متكاملة.. فيما استنفرت القوات العراقية جنودها عند الحدود، لإحباط مغامرات التسلل.. فأين المفر، بعد سلسلة هزائم متتالية مُنِيَ بها داعش وتضاءل عدد مجنديه، وتدهورت حالته وانقطع تمويله، وخمدت أغلب مواقعه الإلكترونية التي أسهمت عالميًا بجذب الأتباع الغرر؟
إذا كان مقاتلو داعش هربوا متهالكين على شاحنات «نقل الماشية»، فقبلهم زعيم طالبان أفغانستان عام 2003 قد فرَّ هاربًا بدراجة نارية، لكن ما زالت طالبان التهديد الأكبر هناك.. وعندما تضعضع تنظيم القاعدة، أتى داعش بشراسة أشد عنفًا لأن الأوضاع تفاقمت سوءًا. وإذا كان جليًا عجز داعش عن إعادة تموضعه كدولة، فإن الظروف البائسة والبيئة الحاضنة التي مكنته من الظهور سابقًا، لا يزال كثير منها قائمًا.. وإذا كانت الهزيمة العسكرية لداعش أخمدت خطره القتالي، فضلاً عن نفور الأوساط الحاضنة له نتيجة أعماله الوحشية، حتى صار منبوذًا من المجتمعات قبل الأنظمة، فإن استمرار الظروف السيئة قد تساعد على معاودة نشاطه أو يظهر تنظيم آخر أشد وطأة.
هزيمة داعش كانت محسومة سلفًا منذ يومه الأول لاحتلاله الموصل قبل خمس سنوات، إلا أن التوقع الأصعب هو معرفة: ماذا بعد، وهل يمكنه العودة من جديد؟ داعش انتهى، ومن المستبعد عودته كدولة، لكن قد يعود كتنظيم إرهابي.. هذه خلاصة مؤتمر ميونخ للأمن الذي عُقد مؤخرًا، الذي قال فيه أليكس يونغر، رئيس جهاز الاستخبارات البريطاني: «الهزيمة العسكرية «لدولة الخلافة» لا تمثل نهاية للتهديد الإرهابي، نرى التنظيم لهذا السبب يتحول، وينتشر داخل سوريا، بل خارجها أيضًا. هذا هو الشكل التقليدي لمنظمة إرهابية». ومثله قالت وزيرة الدفاع الألمانية، وكذلك الجنرال جوزيف فوتل، مسؤول القيادة المركزية الأمريكية.
فهل يمكن عودة داعش مرة أخرى؟ «نعم ولا في الوقت ذاته»، كما يقول فرانك غاردنر (محرر الشؤون الأمنية، بي بي سي)، موضحًا أن «العراق مملوء بمليشيات شيعية، بعضها ممول ومدرب ومسلح من جانب إيران. وهناك تقارير مثيرة للقلق، عن أن بعض القرويين السنة يُطردون من منازلهم، وفي بعض الحالات يتهمون عن طريق الخطأ، «بتأييد تنظيم الدولة الإسلامية».. وفي بعض المناطق، تسير فرق «انتقام شيعية»، في الشوارع ليلاً مع حصانة من العقاب. وفي سوريا، بات معظم السوريين منهكين. لكن الأعمال الوحشية، التي يرتكبها نظامه على نحو ممنهج، سوف تستمر في دفع البعض، باتجاه المقاومة المسلحة، وسيبحث تنظيم الدولة عن سبل، للعودة إلى ساحة المعركة السورية».
ثمة عبء آخر، أنه مصير المقاتلين الأجانب بداعش، والمنظمات الإرهابية الأخرى العاملة في سوريا، يشكل خطرًا منتظرًا وصار من أكثر المخاوف جدية للمجتمع الدولي.. إنهم «قنبلة موقوتة» كما قال عبد الكريم عمر، المسؤول بقوات سوريا الديمقراطية المدعومة أمريكيًا، التي تعتقل نحو 800 مقاتل أجنبي من داعش، (إضافة إلى نحو 700 امرأة و1500 طفل بمعسكرات إيواء) من نحو 50 دولة، ذاكرًا أن هجومًا من تركيا، التي تتوعد منذ أشهر بشن عملية عسكرية ضد القوات الكردية التي تشكل أغلبية قوات سوريا الديمقراطية، قد يخلق فوضى تسمح بهروب هؤلاء المعتقلين، وداعيًا دولهم إلى تحمل مسؤوليتهم. كذلك، دعا الرئيس الأمريكي حلفاء واشنطن الأوروبيين إلى استعادة مواطنيهم الذين قاتلوا في صفوف داعش وأسروا، وإلا فسيتم الإفراج عنهم. فيما تقول عدة حكومات غربية إن مواطنيها الهاربين بعد سقوط داعش غير مرحب بهم.
كم عدد الأجانب الذين التحقوا بداعش؟ يبلغ 41.490 شخصًا (بواقع 32.809 من الرجال و4.761 امرأة و4.640 طفلا) من 80 دولة، حسب نشرة المركز الدولي لدراسات التطرف بلندن (يوليو 2018). ويُعتقد أن أغلبية المسلحين ماتوا أو اعتقلوا.. وأن الباقي بضعة آلاف كثير منهم عادوا لبلدانهم. وقد عبرت الأمم المتحدة عن خشيتها من أن ينشط هؤلاء العائدون مجددًا بعد إطلاق سراحهم. وقالت إن النساء المتطرفات والأطفال الذين تعرضوا للصدمة قد يشكلون خطرًا أيضًا (بي بي سي).
دولة داعش انتهت، لكن خطره لم ينته بعد وقابل لإعادته التشكل.. فلا يكفي مواجهة داعش عسكريًا بل بإستراتيجية شاملة تقضي على البيئة الحاضنة للتطرف تواجهه ماليًا بقطع مصادر تمويله، وفكريًا بمواجهة دعايته.. والأهم، تحسين ظروف المعيشة بإصلاحات اقتصادية واجتماعية وسياسية..