عبدالعزيز السماري
خلال مرحلة الوعي المبكر، تبدأ رحلة اكتشاف معاني الكلمات، وتتبعها رحلة البحث عن حقيقة الأشياء، فقد كان الوعي في تلك المرحلة مهموماً بالأمة العربية وشعارات الأحزاب القومية التي لا تتوقف عن البرباجندا التي ترفعها عالياً: أمة وأمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، وبعد سنوات تكتشف كمية الزيف في تلك الشعارات، فلم يكن خلف ذلك الضجيج إلا فئوية طائفية أو كتيبة عسكرية استولت على الحكم من الأبواب الخلفية ثم علقت المشانق..
كذلك كان شعار الأمة الإسلامية، فقد انطوى تحت لوائه كمية عالية من الزيف والأدوار المعلبة، بعد ما ظهرت من خلاله دموية وطائفية وكراهية، وصراع دموي لا يتوقف حول السلطة، فسقت أوراق الحقيقة من أيدينا، فكل شيء كان مزيفًا في مجتمعنا، أو على الأقل أشياء كثيرة كأن تخفي التضليل والخداع حول الحقيقة.
يمتلئ عالمنا بكمية غير عادية من الأكاذيب والخداع والتضليل والتزييف والاحتيال والواجهات والسراب والدعاية وغسل الأدمغة، لكن الشيء الجيد أنها كانت أدوات مؤثرة لزيادة الوعي عبر السنين، فقد شعرنا جميعاً بالإحباط والحزن والغضب والعجز في الأوقات التي رأينا فيها كيف يمكن لقادة بسهولة أن يخدعوا الجماهير بسلاسة وخطابة فارغة ومزيفة..
هناك معتقدات زائفة وآراء مزيفة وأنواع مزيفة من الشعارات، وهناك أيضًا عاطفة مزيفة، تأتي عندما يتسبب الناس بلا وعي في إشاعة الخطاب واللغة التي تسوق للثقافة المزيفة، بحيث لا يعودون على دراية كاملة بالفرق بين الصواب والخطأ، ثم يساقون للهلاك من دون وعي أو رؤية للحقيقة، ذلك ما حدث في النكبة والنكسة والموقف من الغزاة، وثورات الخريف العربي.
إن أهم وسيلة لطغيان الثقافة المزيفة هو تهميش مفهوم الحقيقة، وقد يبدو ذلك صعبًا في البداية، ولكن كيف يمكن أن تأتي المعرفة إلينا، إذا كنا غير مبالين بحقيقة ما نقرأه أو نسمعه؟...، خلاصة الأمر أن التزييف طبيعة بشرية من أجل الكسب المادي أو السياسي أو العلمي، فقد أثبتت الحقب التاريخية والتجارب والنتائج العلمية أن كثيراً منها كان مزيفاً، وكان هدفه الوصول إلى غاية محددة مهما كانت بشاعة الوسيلة المزيفة، وقد وصل التزييف إلى الأبحاث العلمية، فقد اعترف ممثلون عن الشركات الكبرى، ومحرري المجلات الطبية المحترمين، وحتى من علماء مرموقين، بالحقيقة الصادمة التي مفادها أن كمية كبيرة من البيانات العلمية المنشورة كانت مزيفة، ووببساطة لا يمكن الوثوق بها..
الاختلاف بين عالمنا وعالمهم أن فرض الزيف الثقافي والشعارات الفارغة في الشرق تختبيء خلفها السلطة وقوتها، فكلما صاحبت الفكرة المعلنة قوة مفرطة يزداد معتنقوها ويقل معارضوها...، يرى ميشال فوكو في كتابه «نظام الخطاب»، في موقع الحقيقة ترى السلطة، وأن كل الخطابات والشعارات تكتسب القبول من خلال التعبير عن قوة أولئك الذين يتبنونها ويبشرون بها، أما أولئك الذين، من وقت لآخر، يستطيعون رؤية تلك الحقيقة المجردة، يعاملون كحالة الخروج عن النص.