اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
لقد تجنى البعض على دور العاقلة، وما هو مطلوب منها على المستوى الاجتماعي والشرعي عند تحمل الحمالات ودفع الديات بحيث خلطوا عملاً صالحاً بآخر سيئ إلى الحد الذي أرادوا فيه الخير فوقعوا في الشر عن طريق الممارسات الضارة والتصرفات المنكرة التي إذا ما تُركت ليستفحل أمرها أنعكس ضررها على الانتماءين الاجتماعي والوطني.
وحرصاً من الدولة على تصحيح المسار ودرء الأخطاء صدر أمر صاحب السمو الملكي أمير منطقة الرياض بمنع التجمعات التي تقام لجمع الدية وما في حكمها، تلك التجمعات التي انحرفت عن هدفها على نحو مثير للقلق الأمر الذي دفع متخذ القرار إلى منع إقامتها والتخلص منها بفضل استشرافه للمستقبل.
واسترشاداً بتوجيهات القيادة الأعلى، وتمشياً مع ما نصت عليه الأوامر السامية، ونظراً لأن العاقل يعرف ما لم يكن بما قد كان، فقد أدرك مصدر الأمر بنظره الثاقب وفكره الصائب ما قد يترتب على هذه التجمعات والانحرافات من أخطار أمنية ومضار اجتماعية نتيجة لما يقع فيه القائمون عليها من مخالفات وما يرتكبونه من حماقات سوف يؤدي تراكم أحداثها مع الزمن إلى الإضرار بالأمن الاجتماعي والوطني.
وقد أكد الأمر الصادر على منع ما يعرف بالمراسم القبلية التي يتم فيها جمع التبرعات من أجل تحصيل الدية التي يتحملها الجاني بهدف التنازل عنه من قبل أهل المجني عليه، وما ينجم عن هذه المراسم من سلبيات أمنية وآفات اجتماعية مثل إطلاق النار ورفع الرايات والدعوة إلى التعصب الممقوت وإثارة النعرات القبلية بالإضافة إلى العديد من الممارسات التي يرفضها الاحتساب الديني وينفر منها الطبع الإنساني، بما في ذلك التشهير بالمعروف وحب المظاهر من خلال الدعاية والإعلان عبر مواقع التواصل الاجتماعي بصورة تكشف عن ما يتصف به البعض من الجهل المركب والرياء المستحكم، علاوة على الاسترزاق من قبل بعض ضعاف النفوس ناهيك عن ما ينتج عن هذا السلوك الخاطئ من استمراء المبالغة في عوض التنازل واستسهال الإقدام على الجرائم.
ونظراً لأن هذه المراسم ألغت دور العاقلة وجعلت التبرع هو السائد في جميع الجنايات دون التفريق بين هذه الجنايات أو التمييز بين الجناة فإن من حق الدولة أن تراعي ما يحقق مصالح المواطنين ويدفع عنهم الضرر والمفسدة تمشياً مع القاعدة الفقهية التي مفادها أن تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة باعتبار الحاكم مسؤولاً عن رعاية مصالح المواطنين وفق الحاجة والظروف والأحوال، وقد قال الشافعي: منزلة الإمام من الرعية منزلة الولي من اليتيم.
وانطلاقاً من هذه القاعدة، وبما أن هذه المراسم نحت بدور العاقلة منحى أخرجه من مفهومه الصحيح فإن منعها يُفعّل هذا الدور ويتيح المجال لتصويبه بحيث يتم التركيز على العاقلة، بوصف عصبة الجاني هي التي تتحمل الدية في حالة القتل شبه العمد وقتل الخطأ باستثناء دية العمد والصلح والاعتراف، كما يتحمل القاتل الدية في حالة القتل العمد عند التنازل عنه، مع ملاحظة أن كلمة العاقلة تتسم بالمرونة التي تجلعها تستوعب العصبة الذكور وتتجاوز هذا المفهوم إلى كل جهة ذات مشروعية، يمكن أن يحقق عملها النصرة والإعانة والغرم والدية، انسجاماً مع مقتضيات الزمان وتغير الظروف والأحوال بشكل ينسجم مع مقاصد التشريع الإسلامي التي تحرص على حرمة دم الإنسان وصيانته وحفظ حقوقه، وهو أمر لن يحصل إلا بتوسيع مدلول العاقلة وفقاً للمتغيرات الظرفية والزمنية والأعراف الإنسانية.
وبقدر ما يساهم منع إقامة المراسم في تصحيح دور العاقلة بقدر ما يضع الانتماء القبلي في إطاره الاجتماعي الصحيح، كوحدة انتمائية خاصة تخدم الانتماءات العامة وصولاً إلى الانتماء الوطني، بعيداً عن التعصب المذموم والحمية الجاهلية، وذلك انطلاقاً من أنه طالماً أن الحفاظ على حقوق ذوي المجني عليه في الدية أمر واجب، فإن طرق ووسائل حفظها تعتبر واجبة أيضاً، حيث إن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
والواقع أن أمير منطقة الرياض من خلال هذا الأمر شخص الداء ووصف الدواء عندما منع التجمعات التي تقام لجمع الديات أو ما يطلق عليه المراسم، ولكن حتى يتحقق الدواء الشافي والترياق المعافي لعلاج هذه الظاهرة المتفشية والممارسات غير المنضبطة في المجتمع القبلي يتعين على النخب في كل قبيلة المساهمة في تفعيل دور العاقلة ضمن وحدات القبيلة الانتمائية من الأدنى إلى الأعلى بدءاً بالعشيرة والفخذ، ومروراً بالبطن والعمارة، وصولاً إلى الفصيلة والقبيلة، كما يجب على أصحاب الجاه والمال من أبناء القبيلة القيام بالتوعية ونشر ثقافة الصناديق الخيرية ذات الطابع التعاوني والأنشطة الاجتماعية وتطويرها إلى ما يعرف بالتأمين التعاوني الجائز شرعاً بشقيه البسيط والمركب، وكل ما يقوم مقام العصبة وينطبق عليه مدلولها من الصيغ التعاونية في مجالات البر التي تتفق مع قصد الشريعة الإسلامية وتخدم التكافل الاجتماعي والعمل التعاوني، مثلما هو الحال في التأمين الاجتماعي أو التكافلي.
وحتى يكتمل علاج الظاهرة يتحتم إعادة النظر في نظام لجان إصلاح ذات البين وطريقة عملها بهدف تصويب مسارها وإصلاح أمورها حتى يتحقق طرفا المعادلة بالشكل الذي يحد من المبالغة في العوض عند التنازل ويقضي على آفة الارتزاق وحب المظاهر، وفي الوقت نفسه يجب الاستفادة من مشايخ القبائل والمعرفين ورؤساء المراكز القبلية وتحميلهم المسؤولية بما يمكنهم من الاضطلاع بها ضمن منظومة العمل الإداري والميداني في المحافظة.