الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
تحضَّ تعاليم ديننا الإسلامي على بر الوالدين باعتباره من أحب الأعمال إلى الله تعالى، وقرنت الإحسان إليهما بوحدانية الله، وفي الوقت ذاته تسمع وتقرأ عن قصص عقوق الوالدين الذي يعد من أكبر الكبائر، مما يدمي القلب، وتشيب له الوِلدان.
إن عقوق الوالدين يسبب الشقاء في الدنيا والآخرة، ولا شك أن تزايد العقوق يمثل جرس إنذار، ووفق ما حصلت عليه «الجزيرة» من مصادرها فإن إجمالي الأحكام الصادرة من المحاكم في قضايا عقوق الوالدين حتى الآن خلال العام الجاري (1129) حكماً، وهناك الكثير من القضايا لا تزال موجودة في مجلس القضاء، وأكثر من ذلك لم يتقدم الآباء والأمهات بشكوى أبنائهم وبناتهم للمحاكم لاعتبارات اجتماعية وإنسانية.
ولأهمية تلك القضية التي سجلت تزايداً في المجتمع.. طرحت «الجزيرة» على عدد من ذوي الاختصاص في مختلف العلوم والمعارف وأهل الرأي قضية «عقوق الوالدين»، وكانت رؤاهم على النحو التالي:
البر والعقوق
يقول الشيخ عمر بن مهدي الشمري القاضي السابق، والمستشار القانوني والمحكم أن بر الوالدين من أوجب الواجبات التي فرضها الله سبحانه وتعالى بل وقرنها بطاعته {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أو كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (سورة الإسراء 23-24). وقرنها في موضع آخر بعهده قال تعالى {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ، وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ} (سورة الرعد 20-21)، وقال: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (سورة الرعد 25). وهم أولى القرابات الواجبة صلتهم، فعن طارِقٍ الْمُحَارِبِيِّ قالَ: قَدِمْنَا المدينةَ، فإذا رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائمٌ يَخْطُبُ ويقولُ: ((يَدُ الْمُعْطِي الْعُلْيَا، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ: أُمَّكَ وَأَبَاكَ، وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ)).. رواهُ النَّسائيُّ، وصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ والدَّارَ قُطْنِيُّ.
وعقوق الوالدين وهي مقابل البر والصلة، معناه واسع ودقيق، قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى: «والمراد به - أي العقوق - صدور ما يتأذى به الوالد من ولده من قول أو فعل إلا في شرك أو معصية ما لم يتعنت الوالد»، وهو يختلف من زمن لآخر ومن عرف لعرف، ففي زمننا هذا اعتبر كثير من العلماء الانشغال عنهم في وقت الاجتماع معهم بالجوال مما يضيق به صدرهم ويتأذون به من العقوق.
الحذر من العقوق
ويوضح الدكتور محمد بن إبراهيم الرومي أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة الملك سعود بالرياض: إنّ ديننا الحنيف حذَّر من عقوق الوالدين وواجب طاعتهما وبرهما، حيث قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أو كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (سورة الإسراء 23-24), وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والديوث والرِّجلة) رواه النسائي والحاكم.
وقال: إنه لا يقدم على عقوق الوالدين إلا فاقد المروءة سيئ الخلق قليل الدين، ومن كان كذلك مع أوثق الناس به وأكثرهم تفضلاً عليه كان مع الناس أدنى مروءة وأسوأ خُلقاً وأقل ديناً.. مؤكداً أنه مهما حصل من الوالدين فلا يجب عقوقهما لأن ما يبدر منهما تجاه أبنائهم وبناتهم يكون في الغالب بدافع الشفقة، والرحمة، والخوف، وهذه الأمور قد لا يعيها الأبناء والبنات في الصغر ولكن بعدما يكبروا ويعوا الحياة جيداً يتبين لهم فضل الوالدين ولماذا ذلك المنع والخوف والقسوة والشدة التي تبدر منهم ونحن صغار السن؟
ويضيف الدكتور محمد الرومي أن من صور العقوق إبكاء الوالدين وتحزينهما بالقول والفعل، ونهرهما وزجرهما، ورفع الصوت عليهما، والتأفف من أوامرهما، والعبوس وتقطيب الجبين أمامهما، والنظر إليهما شزراً، والأمر عليهما، وترك الإصغاء لحديثهما، وشتمهما، وذم الوالدين أمام الناس، وتشويه سمعتهما، والمكث طويلاً خارج المنزل مع حاجة الوالدين وعدم إذنهما للولد في الخروج، وتمني زوالهما، أو إيداعهما دور العجزة، والبخل عليهما والمنة وتعداد الأيادي، انتقاد الطعام الذي تعده الوالدة. ومن صور العقوق إدخال المنكرات للمنزل، أو مزاولة المنكرات أمامهما، والتعدي عليهما بالضرب، أو قتلهما - عياذاً بالله - وتقديم طاعة الزوجة عليهما، وإثارة المشكلات أمامهما إما مع الإخوة، أو مع الزوجة، وكثرة الشكوى والأنين أمام الوالدين.
وسائل التواصل
ويؤكّد الدكتور مساعد بن عبدالله المحيا أستاذ الإعلام المشارك أنه لا يرى سلبية للشبكات الاجتماعية تجاه العلاقات الاجتماعية وبخاصة الوالدين، وأن من يمتلك بذرة الحب وطاعة الوالدين والوفاء لهم أو من تربى على ذلك ستكون وسائل التواصل بالنسبة له سبيلاً لمزيد من بر الوالدين، وحسن التواصل معهم وإكرامهم وإسعادهم.
صحيح أن هناك من قد يجعل هذه الوسائل بديلاً عن القرب منهم وخدمتهم ومساعدتهم والعمل لأجلهم وتحقيق ما يتطلعون إليه وهؤلاء أحسب أنهم قلة تمامًا كالذين تقلص حضورهم لوالديهم بمجرد وجود هاتف لديهم؛ مشيراً إلى أنه في مجتمعنا - والحمد لله - يشعر الأبناء والفتيات وبخاصة الكبار أن عليهم أن يكونوا أكثر عطاء وسخاء تجاه والديهم، وأن يتدفق منهم الوفاء والبر بأقصى درجاته، ويتطلع د. المحيا إلى أن يبتكر الأبناء أفكارًا كثيرة يستثمرون بها شبكات التواصل لتكون وسيلة يدخلون فيها السرور لوالديهم وفقاً لطبيعة كل فرد ومدى إمكانية وتقبل والديه لذلك، ووسائل التواصل الاجتماعي قادرة على جعل الابن أكثر تواصلاً مع والديه بل وحاضرًا أمام والديه يشاهدهم ويشاهدونه ويتحدث إليهم ويحدثونه وأن نأت به الديار.
المتغيرات المتسارعة
وتشير الأستاذة هياء بنت محمد الجبرين المرشدة الأسرية إلى أنه ولد في زمن المتغيرات المتسارعة الحديثة في المجتمع انشقاق عاطفي بين الأبناء وآبائهم؛ فلم يعد للآباء (الأم والأب) وقت للجلوس مع أبنائهم وزرع قيمة البر في نفوسهم، وعندما يكبر الأبناء تبدأ علامات العقوق بالازدهار، منبهة إلى أن عقوق النظرات هي في البدايات ثم عقوق الألفاظ، وتختتم بعقوق الأفعال. نسأل الله أن يرد أبناءنا ردَّاً جميلاً ويرزقهم العلم النافع والعمل المتقبل والرزق الطيب.
الصمت المنكسر
وتجدّد الدكتورة عائشة بنت علي حجازي أستاذ علم النفس الإكلينيكي بجامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن بالرياض التأكيد على أن المتغيرات الحديثة أثرت سلباً على المجتمعات العربية والإسلامية خاصة في علاقة الأبناء بوالديهم، فأصبحت تؤدي في كثير من الأحيان إلى عقوق الوالدين، وعدم الاستماع لهما وعدم الإجابة على أسئلتهما، فالجدة تسأل ولا أحد يجيبها، وتتحدث ولا أحد ينصت لها، حتى إذا شعرت أنه لا أحد ينصت لحديثها صمتت منكسرة من أقرب الناس إليها. فثورة التقنيات والتواصل قد غيرت الأخلاق والسلوك، وأدت إلى انهيار العلاقات الاجتماعية نتيجة للاستخدام السيئ لها من قبل شريحة كبيرة من المجتمع وخاصة فئة الشباب من الجنسين، فيصبح الشخص منغلقاً على نفسه ولا يجد الوقت الكافي لمعرفة أحوال والديه، فيكتفي بالسؤال عنهما عن طريق الجوال أو الإنترنت ممّا أفرز مشكلات وصراعات نفسية وتحللاً في شبكة العلاقات الاجتماعية بين أفراد بين الأسرة الواحدة، وبسبب التغيرات الحديثة وما فيها من سيل متدفق من المعلومات والأخبار والمعارف والصور والمقاطع. أُعِيد تشكيل عقليات الشباب والفتيات بعيداً عن والديهم وأسرهم ومعلميهم، فغلب على هذه العقليات التمرد والتفرد، والتطرف والانعزالية والانطواء، وتثاقل الجلوس مع الأسرة، والسخط من كل شيء.
وشدّدت د. عائشة حجازي قائلة: نحن لا نُدين التقنيات الحديثة أو ندعو إلى رفضها، ولكننا ضد الإسراف في استخدامها والانشغال بها ونسيان الوالدين وصلة الرحم.
الطب النفسي
ويشدد د. عزت عبد العظيم استشاري الطب النفسي بمستشفى الحمادي بالرياض أن بر الوالدين والإحسان إليهما ومراعاتهما في الكبر أمر يفرضه العقل والمنطق والعرف والدين ومكارم الأخلاق، فليس هناك من هو أولى بالبر والرحمة والإحسان من الوالدين، وبالتالي فإن من لا يفعل الأصول والواجب المفروضين عليه تجاه الأبوين لابد أن يكون شخصاً غير طبيعي، جاحدًا لفضلهما عليه، كما أن من لا يقوم ببر والديه إلا كل من كان غير سوي نفسيًا يتحتم عرضه على الطب النفسي. لكن للأسف تظل مشكلة عقوق الأبناء للوالدين غائبة عن الدراسات النفسية والاجتماعية، وكذلك العلاج النفسي وقلة معرفة معدلات الحدوث بين الشباب أو الفتيات، ومعرفة ما هي فئات المجتمع الأكثر تعرضًا لها، وذلك لعوامل عدة منها: محاولة الأهل التستر عليها منعًا للفضائح، أو ربما اللجوء للشرطة والمحاكم وليس الطب النفسي وخصوصًا عند حدوث منازعات ومشاجرات كبيرة بين الأبناء والآباء.
ويكشف استشاري الطب النفسي بالقول: من واقع تعاملاتي مع مثل هذه المشكلات وشكاوي بعض الآباء ودفاع الأبناء عن أنفسهم، اتضح لي أنه يجب دراسة كل حالة على حدة دراسة مستفيضة وبصورة شخصية، مع عمل بحث اجتماعي للأسرة لاستيضاح وضع مثلث العلاقة الأسرية بين الأبناء والآباء والأمهات، لأنه في الغالب يوجد اضطراب أو خلل واضح في توازن العلاقة الأسرية، وبالتالي حدوث صراعات فيما بينهم من أهمها حالات الطلاق.
ويستطرد د. عزت عبد العظيم: أن عقوق الأبناء يكون غالبًا بسبب بعض الاضطرابات النفسية والسلوكية وأهمها حالات الإدمان واضطرابات الشخصية وسوء السلوك والتي تتطلب التعامل معها على محاور عدة؛ لكن قد يكون هناك نوع من الإجحاف والظلم من جانب الآباء لبعض الأبناء وخصوصًا عند وقوف الابن بجانب أمه بعد طلاقها وتدخل العلاقة الأسرية في منعطف العناد والتحدي والإذلال للمطلقة وأبنائها، وتكون ادعاءات الأب ليست صحيحة!!، ومن هنا يجب دراسة مثل هذه الحالات نفسياً واجتماعيًا وحث الأطراف كافة على الالتزام بأوامر الله وبحدود العلاقات الإنسانية والعائلية ورابطة الدم، ومحاولة وضع بروتوكول مناسب يتوافق مع متطلبات المشكلة، والعمل على إصلاحها نفسيًا وأخلاقيًا ودينيًا واجتماعيًا حتى يعم الوفاق والمودة والرحمة بين الجميع.