أي ذاكرة يحمل المُسن في رأسه؟ أتساءل عن الشخوص اللامعدودة التي مرّتها وعن الكثيرين الذين أقاموا فيها وقتا معلوما وعن الذين أسرّهم المقام فمكثوا. أيعقل أن للمسن أياما تشبه أيامنا التي نحاول فيها هباءً أن نجمع الرضا بكفين غير متطابقين تتسرب من خلالهما كل محاولاتنا. كل الذين يطرأون في لحظات تشبههم وتهز رأسك ليتناثر رماد أطيافهم التي لم تفلح محاولاتك بحرقها أصلًا، ثم تطأطئ رأسك المُثقل بما لا يحتمل فؤادك على الشعور به دفعة واحدة وكأنك لم تعد تتنفس عنصرًا كيميائيًا وإنما تتنفس الأشخاص تباعًا.. وتقرع كنائس ضميرك المحافظة أجراسها على تقصيرك لكل من مات.. صديقك الذي جلس بجانبك على سلم المدرسة.. صديقك الذي يشبهك في زيّك الموحد، تسريحة الشعر، عدد النقود في جيبك، وحتى نكهة لبانك. لماذا مات مبكرًا؟ ليقول بأنك كبرت؟ أم ليتحول إلى عذاب دائم يستفز ضميرك المحب له.. يختبر هذه المحبة كل يوم.. كل يوم إلى أن تلتقيه ويا لسوء حظك أنه لن يتعذب بك وحظ صديقك الذي خلفته حيًا توجعه ذكراك كل يوم.. كل يوم إلى أن يلتقيك.. ربما!
أي ذاكرة للمسن تتحمل مشوار العمر الشقي.. شقاء النفس.. ونصيبها الذي لم يكتمل يومًا.. ويا لغربته حين يُقسم سرًا بأنه محتاج لعناق دافئ.. يُطمئن رجفة القلب ووحده يعلم بأنها ليست سوى كعوب السابقين ترقص الجاز في ساحة القلب التي خربتها ثورات شبابه.. على أية حال.. ساحة القلب تزداد بردًا بتكرار الأيام، تصير زمهريرًا مع كل عام.
أقف أمام نافذة حجرتي أحرك قهوتي بالملعقة، حركة دائرية بإيقاع منتظم، إلى أن ألقت نسمة شتوية تحيتها عليّ.. فقدتْ ملعقتي إيقاعها ورنوتُ طويلًا في الظلام خلف النافذة.. أ الظلام في الخارج أم في ذاكرة الحنين الساكنة أقصى....
أقصى....
لا أدرى إن كانت أقصى الرأس تُلقي بساكنيها إلى الناصية كلما هبّ ريح بارد، أم تتربع كبد الفؤاد وتنفض وشاحها الأبيض المبلل بالماء البارد كلما هب ريح بارد.. لكنني وبلا شعور هززت رأسي رافضة هذا الشعور، أرجو ألا أشعر به، أنا ما عدت أحتمل الحنين، والحنين ينفض ملاياته البيضاء في الجو البديع تحت سماء صافية وفوق أرض خضراء.. يبتسم بهدوء وديع لا يشبه البرد الذي يأتينا معه غير آبه بما تتكبده النفس من عبرات. ولم قد يأبه؟ نحن الذين أسرفنا بالشعور أكثر من المفروض.
آه صحيح، تتذكر الطفل الصغير الذي لم ترأف به وكممتَ فاهه حين كان يتوجب عليه الحديث ليأخذ الكبار حقه من أنداده، الصغير الذي أسندت يديك على كتفه الغضّ بدلًا من أن تحمله بين ذراعيك إذ أن الوقت مبكر جدًا على أن تتشوه قدميه بالطريق الوعرة. أنتَ حانق الآن لأن أحدًا لم يخبرك أنك لن تكبر أبدًا، بدلًا من تساؤلاتهم اليائسة: متى تكبر وتعقل؟ ولم يخبروك بأن عين العقل تبصر من خلال الفؤاد وبصيرتها مكلفة تودّ لو تفقأها وتتخلص من عبئها. آه نعود لذاكرة المسن بصنوف الناس الذين عبرَتهم، المارة في الشارع وراكبي السيارات، العاملين في الدكاكين والأسواق والتنظيف والباعة المتجولين والمتسولين. المهمومين بمعاملاتهم في الدوائر الرسمية والموظفين، وجوه المغادرين والعائدين في المطارات، المسافرين على متن طائرة ومواطني المدينة المقصودة بالمارين في شوارعها وراكبي سياراتها، العاملين في دكاكينها وأسواقها وتنظيفها وباعتها المتجولين. الآخرين الذين حاول لفت انتباههم وأفلح معهم والذين لم يفلح معهم. القصائد التي تمنى لو يكتبها والقصائد التي تمنى لو أهديت إليه. الأحضان التي اشتهاها واحتاجها من شخص بعينه ومنعه عنها كبرياؤه.. أحلامه التي خذلها وأسنّ قبل أن يزين عنقها بلؤلؤة.. وشخوصه الذين ألفوه وألفهم وفات الزمن عليه وعليهم وتخمّروا في ذاكرته.. حتى انتهوا حنينًا!
** **
- هياء عبد العزيز الزومان
@hayaalzouman