د. إبراهيم بن محمد الشتوي
وفي هذه النصوص الشعبية نجد التراكيب المستعملة كما الألفاظ لا تتحرج أن تكون خارج النظام اللغوي الرسمي المتعارف عليه، فهي لا تلتزم بالتركيب الفصيح، كما لا تلتزم أيضًا بالبنى الصرفية العربية المعروفة، فتخرج أحياناً إلى ما تسمى بالعامية، وربما اعتمدت بعض التراكيب التي تكون في أصلها غير عربية، أو ربما جاءت ناقصة، بل لا يبعد أن تطغى عليها الألفاظ السوقية النابية، ينطق بها صراحة، وتسمى الأشياء بأسمائها دون كناية أو مجاز.
كما أنها قد تمثل الفئات المختلفة في المجتمع من خلال حضور لغتهم، فقد تأتي لغة الأجنبي المكسرة حاضرة في القص الشعبي على لسان الراوي، أو لغة الطفل الذي لم يستقم لسانه حين يتحدث أو يناغي، كما أنه -الراوي- يسعى إلى أن يتمثل الفروقات الصوتية في كلامه بين فئات المتكلمين، ونطقه لها، فيرقق صوته حين يكون المتحدث امرأة، أو يخشنه حين يكون رجلاً وقد يلوي لسانه ويغمغم في الكلام إذا كان يدعي أن المتحدث ذئباً، أو أسداً، كما يسعى إلى أن يتوسل من وسائل الكتابة ما يساعده على تسجيل ذلك وكتابته.
وأما من حيث بنائها، فإنها لا تلتزم نظاماً محددًا في تركيب عناصرها، أو في تأطير شخصياتها، وتصويرهم، كما لا تلتزم إطاراً محدداً في تقديم أحداثها، وتسلسل أزمانها، أو في ضمير القص فيها، وكأنها قطعة سردية بغير نظام، فهي تقصر وتوجز المدد الطويلة بكلمة أو كلمتين، والطفل يتحول شاباً أو هرماً في غضون صفحة من القص أو صفحتين، وتطيل في ذكر تفاصيل دقيقة حيناً لا يحتملها المقام، والأحداث في تتابعها لا تبحث عن الترابط السببي، والشخصيات تخرج عن الإرغامات التي تفترضها كل شخصية أو موقع اجتماعي لتقدم نفسها بصورة مختلفة، وفي الوقت الذي تستعمل المنطق والحجة في بناء خطابها السردي، لا تبالي أن تكسر هذه الحجج وتخرج عليها في السياق نفسه، ساعية لبناء منطقها الخاص.
والأمر العجيب أن القارئ يجد الحكاية الواحدة تتكرر في المجالس بتغيير شخصياتها، أو أزمنتها، ومكانها دون أن يجد أن هذا التبديل والتحوير أو عدم الالتزام بصورة واحدة مما يحرج لأجله الراوي، أو يجد السامع فيه ما يقلل من قيمة الحكاية المسموعة، بل ربما يكون أمراً مقصوداً يعمد إليه الراوي لتقريب الحكاية من السامعين، وجذب انتباههم إليها بجعلها تتحدث عن حيواتهم الشخصية، وتعبر عنهم حقيقة التعبير، وكأنها تروي أخبارهم، وتدون أفعالهم، وهذا ما يزيد التصاقها بالمتلقين، ويكسبها بعداً واقعياً، يوازن ما فيها من جنوح الخيال وبعد عن المعقول. وهذا الخروج عن الصياغة الأدبية الرسمية المعتبرة أو -بصورة أخرى- الالتزام بالصورة التي وردت عليها الحكاية في بيئتها الأصلية وظهرت في خيال راويها، دون كثير تنظيم وزبرقة، وتحوير، يعكس الصورة الاجتماعية التي تمثلها، وتقدمها، وحال الجماعة التي تنتجها، وتستهلكها. وهو ما يعني واحداً من أمرين: إما أن هذه الفئة قصدت إلى ذلك قصداً لتجعل هذا الوجود الفني واللغوي نوعاً من الوجود الاجتماعي الذي تتدثر به مقابل ما تقابله من تهميش، فهو نوع من النضال والمواجهة للسلطة المركزية اللغوية والاجتماعية، أو أنها لا تستطيع ذلك المستوى ولكنها لا تحفل به، وتعلن رفضها للسلطة النقدية والأدبية التي تقصيها بإخراجها من فردوس الأدب والثقافة، لتمارس أدبها بما لديها من إمكانات متخذة هذا المنتج النصي وسيلتها اللغوية في تدوين ثقافتها وفكرها، وتهدم المنطق الاجتماعي والفكري لتبني منطقاً جديداً تصنعه هي، وتؤلف بين عناصره كما يشاء، وكما ترى الوجود أمامها حيث لا يقوم على منطق صحيح في نظرها، وهما في الحالين صورة من صور التمرد على المؤسسة الأدبية، ومن جهة أخرى بيان الصلة الوطيدة بين الأدب والطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها، بجعل هذه النصوص اللغوية معادلاً موضوعياً -إن صح التعبير- أو صورة متكاملة عن البنية الاجتماعية التي تنتمي إليها، ويمكن أن تكون كياناً قائماً مستقلاً عن البنية الاجتماعية تمثل المواقع فيها، والعلاقات بينها تكوينًا موازياً لمثيلاتها في البنية الاجتماعية.
والأمر المهم أننا حين نعاود النظر إلى هذه النصوص وما تحمله من سمات لغوية ومضمونية، تتصل بالبيئة الضيقة التي أنتجتها، وبالفئة الاجتماعية التي تدور في أحضانها، لدرجة أن هذه البيئة والفئة تحور الحكاية أحياناً وتبدلها لتوافق ذوقها، دون شعور بالحرج أو التردد، نتبين أن هذه العملية تجعل هذه الحكايات تعبر عما يسمى بالنقد بـ»المحلية»، بمعنى أنها تلتصق بالبيئي والخاص، وتبتعد عن الأجنبي، أو أنها تغوص بالبيئة المحلية محاولة استعمال أبرز مكوناتها، وتقديمها من خلال ما ذكرناه سلفاً من ظواهر لغوية أو بنيوية للحكاية. وعن طريق هذه المحلية تتمكن من أن تثبت تميزها وفرادتها بوصفها نصوصاً, وأدباً خاصاً مختلفاً عن سواه، يستحق البقاء والدراسة.