د. أحمد الفراج
نواصل الحديث عن كتاب المفكر الفرنسي، برنارد ليفي، وحديثه عن الامبراطوريات الخمس، التي تتأهب لوراثة المارد الأمريكي، الذي انكفأ على نفسه، وتخلى عن دور شرطي العالم، ولا أظن أن ليفي يتوقع فعليا أن تحل امبراطورية أخرى محل أمريكا في القريب المنظور. هذا، ولكن حديثه يجب أن يؤخذ بجدية، فهناك امبراطوريات طامحة، وبالذات الصين وروسيا، فالتنّين الصيني بلغ مراحل متقدمة من التطور على كل المستويات، رغم الحرص على التكتّم، وقيصر روسيا يحصد ما زرع منذ تسنمه السلطة المطلقة، فقد كان يتجرع السم الزعاف، منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، أما تحليل ليفي عن تركيا وإيران، فأتفق معه في أنهما يحلمان بإعادة إرثهما الامبراطوري، وأختلف معه في قدرتهما على منافسة زعيمة العالم الحر، متى ما كانت الظروف مناسبة.
لا يعني صعود امبراطوريات جديدة أن أمريكا ستسقط، ففلسفة الرئيس ترمب القومية، أي الانكفاء، وعدم تقديم أمريكا خدماتها بالمجان، لا يعني ضعفا في أمريكا، بل يعني أنها تخلت عن دورها كشرطي للعالم، ولكن هذا لا يعني أبدًا أن لديها مناعة ضد التفكك والضعف، فقوة أمريكا تكمن في أمرين، أولهما أنها دولة مؤسسات عريقة، يتجاوز عمرها القرنين، والثاني هو أن ثقة الشعب بالمؤسسات الفيدرالية، هو أحد أهم أسرار وحدة وقوة وتماسك هذه الامبراطورية الضخمة، ومتى ما تزعزعت ثقة الشعب بالمؤسسات الفيدرالية، فإن ذلك يعتبر مؤشر خطير، وقد حدث في التاريخ الأمريكي أن انتهكت المؤسسات الفيدرالية، وحدثت أزمة كبرى، تم علاجها بسرعة.
عندما أدرك الرئيس، ريتشارد نيكسون، أنه في ورطة كبرى، بعد ثبوت تورطه في التجسس على مقر الحزب الديمقراطي، قبل انتخابات الرئاسة لعام 1974، وهي الانتخابات التي فاز بها في نهاية المطاف، حاول عزل المحقق الخاص في القضية الشهيرة «واترقيت»، وبما أن من عجائب النظام الأمريكي أن الرئيس لا يستطيع عزل المحقق الخاص، فمن يستطيع فعل ذلك هو وزير العدل، المعين من قبل الرئيس، فقد طلب نيكسون من وزير العدل، اليت ريتشاردسون، أن يعزل المحقق الخاص في قضية واترقيت، فرفض الوزير ثم استقال، ثم طلب من نائب وزير العدل، وليام ريكالشواس، أن يعزل المحقق الخاص، فرفض هو الآخر ثم استقال، فطلب نيكسون من الشخصية الثالثة في وزارة العدل، روبرت بورك، أن يعزل المحقق الخاص، فاستجاب، وعزل المحقق، وكانت هذه هي الطامة، التي استقال نيكسون بسببها، وبالتالي تمت إعادة الثقة للمؤسسات الفيدرالية، وهناك اليوم من يتهم ترمب بانتهاك المؤسسات الفيدرالية، وهذا ما سنواصل الحديث عنه.