يوسف المحيميد
في بداية تجربتي في الكتابة، أثناء المرحلة الثانوية، كنت أكتب القصة القصيرة بخجل وتردُّد، وأضع القصة داخل مظروف صغير عليه عنوان صحيفة الجزيرة في الناصرية، ثم أرمي به داخل صندوق البريد قرب بوابة المستشفى المركزي، وأنتظر نشر قصتي بلهفة، حتى وجدت اسمي يومًا ضمن الردود على القرّاء، وفيه طلب زيارة القسم الثقافي في مبنى الجريدة.
ذهبت هناك، وقتها كان نسيم الصمادي، وسعد الدوسري، وصالح الأشقر -يرحمه الله- وآخرون، هم من يقود الصفحات الثقافية في الجزيرة، جلست مقابل مكتب أبي هتان، وسألني عن قراءاتي، ثم التقط قلماً وكتب على ورقة صفراء: أحزان عشبة برية، جارالله الحميد، مكتبة خالد، شارع الثميري. ناولني الورقة كما لو كانت وصفة طبيب، وخرجت أبحث عن هذا الدواء، تلك المجموعة الصغيرة جدًا، بغلافها الأسود، حتى عثرت عليها، وقرأتها عدة مرات، كمن يتناول علاجًا يوميًا، ثم عدت للكتابة مجددًا، ولكن بلغة مختلفة.
لم أزل أتذكر دهشتي باللغة السردية في تلك المجموعة، تلك الجمل القصيرة، العبارات المبتورة، الحوار الذي لا يكشف كل شيء، هذه النقلات الغريبة في السرد، أو لنسمها القفزات الوثابة من مشهد لآخر، تلك الفراغات التي يتركها جارالله قصدًا، كي يورط القارئ في تخيلها، كانت وصفة (أحزان عشبة برية) مهمة لي آنذاك، جعلتني أفكر بأن في السرد القصصي مناطق عديدة يجب التعرف عليها، والخوض فيها، وهو ما فعلته في تجربتي القصصية فيما بعد، بالتجريب في مناطق جديدة.
هذا الموقف يجعلني أفكر الآن بعلاقة الأجيال سواء في الأدب أو الفن، كيف كنا ننهل من تجارب من سبقنا، سواء على مستوى الكتابة أو القراءة، مثل عبدالعزيز مشري، جارالله الحميد، عبدالله باخشوين، سعد الدوسري، صالح الأشقر وغيرهم. وكيف يمكن للجيل الجديد الاستفادة من تجاربنا، رغم الفارق الكبير بين الأجيال والعقود.. ففي الثمانينات كانت مصادر المعرفة والثقافة قليلة، ونادرة، والحصول على كتاب أو مشاهدة فيلم كان أمراً صعباً ومعقداً، أما جيل الألفية فمن السهل الحصول على الكتب والأفلام دون عناء، لكن الموهبة تحتاج إلى البحث والاطلاع والحوار والتجربة كي تنضج وتكتمل.
أعتقد أن الحوار بين الأجيال في الآداب والفنون، مهم للغاية، ليس للجيل الجديد فحسب، وإنما للجيل السابق أيضًا، لبث الروح في اطلاعهم ومعارفهم الجديدة.