د.فوزية أبو خالد
لا بد من المصارحة بأنني منذ أن نحتُ بالحبر لمحة من فضاءات الروح في كتابي «كمين الأمكنة» قبل ما يزيد على عشر سنوات لم تشفَ يدي بعد من قروح تلك التجربة، ولم أنجح في كف رائحة المكان عن اللعب بأعصابي من حينها إلى اللحظة التي أشمر فيها أكمامي الآن للكتابة على جدارية الجزيرة الصحيفة شيئاً من موجدة الحنين المتجدد المبرح للوطن، الذي أثارته في نفسي عبر لقطة باليوتيب العزيزة سلوى القنيبط في رحلتها البرية وهي تقود سيارتها الشاص بمعية د. عواطف القنيبط ود. فاطمة الخريجي، وباقة أخرى من الزميلات وأطياف الزميلات لإعادة استكشاف منطقة تبوك مرورًا بتيماء وليس انتهاء بظبى التي ليس لها منتهى مثل قصيدة الشاعر عبد الله الصيخان الغناء على أبواب تيماء وقصائد قيس بن ذريح في لبنى الكعبية، فكيف لمن أنشب عشق البلاد مخالبه في خصرها أن تكتب بحياد عن التحولات السياحية الموعودة والمزمعة دون أن يفز القلب وينشط القلق في العروق ضنًا ببكارة تلك الأمكنة، وخشية على إرهاق جمالها الرباني بمساحيق الاستهلاك السياحي وعوادمه المصاحبة.
فماذا أكتب عن اندلاعات ربوع بلادي من عيوني كلما رمشت, وعن شهيق وزفير النفود والدهناء في صدري كلما تنفست، وعن ركض السروات وتهامة ووادي الرمة وفاطمة والسرحان في دمي صيفًا وشتاءً؟
في كمين الأمكنة كتبتُ عن ملاعب طفولتي في الحوية وشهار ووادي وج والمثنى وبساتين الفيصلية بالطائف عن المجرور والرمان وأثواب الحويسي. فهل تستطيع كاميرا السياحة الرقمية أن تلتقط مشهد شوك البرشومي الذي لا يزال عالقًا بقلبي.
كتبتُ عن مكة المكرمة فكشفت عن حفريات التاريخ على أضلعي، عن مسرى هاجر وخديجة وسمية وأسماء، عن أبواب الحرم وحرمة دم الحمام في الأشهر الحرم, عن تلك البقعة الجرداء التي تحوَّلت إلى مهوى الأفئدة قارات عدة في قرية واحدة (أم القرى). فهل تستطيع تقاليد الوفادة الفندقية ذات الخمسة نجوم أن تقدم للضيف هوى معتقًا في تلك الجرار المبخرة بأيدي بنات مكة بالبخور الجاوي والمستكا؟ هل لها أن تسقيه ماء مرقيًا بسورة اقرأ والفاتحة والمعوذات في دوارق الفضة وطاسات الصيني المعشقة بالقصب؟
فلما وصلت سهل تهامة عبر وعور سلسلة جبال الحجاز مرورًا بالباحة وبلاد غامد وزهران لما بعد أحد رفيدة ورجال اللمع وعلى مشارف جازان تنحيت لنساء الجنوب ليكتبن بعروق الحناء وعَرق المخاض وخوص القبعات على مدرجات الجبال حفيف الشجر، مواسم الأعراس, سيرة بلقيس، شجن الأرض ساعة هطول المطر.
أما عندما أنخت بمسجد عمر فقد صليت ركعتين لله الواحد الأحد الذي أخرج الظلام من جزيرة العرب وأرسل شمس الهدى إلى ما وراء الأفق. وحفرت بمغزل النسيج أسماء ملكات الشمال ونخيل حلوة الشمال على مجرى المياه. حييت الرجاجيل بما يحمله الجوف وجبل أجا وسلمى من هواء نقي. فهل من رحالة يلمس لمس اليد مخمل الرمل وديباج النجوم؟ هل من مرشد سياحي يدل على معبر سهيل والثريا في الأحلام.
هل سياح يقرؤون ملح تاروت وفوار عين نجم وأحزان دارين وزيت أبقيق في تشققات جلد البحارة والنوخذة وعلى سواعد عسيب السلج والسكري ونبوت سيف. هل من يتهجى التعرجات على طريق الجماجم أو الدروب المؤدية إلى حفر الباطن والخفجي. هل من يسمع أي الكرسي من سورة البقرة في استغاثة المعلمات كلما اصطدمت سيارة بشاحنة على طريق المدارس بين القرى والمدن في غبش الفجر. هل من قرأ دانتيل الكثبان التي كتبتها الريح على جبين عرعر وطريف أو على مسرى الليل في الوجه وأملج مزجت حبري بهوى نجد وشهقات شعيب حريملا بمرابع الدرعية ومغاور الصمان وكتبت حنين الواحات للقوافل, شكوى برج المملكة للسحاب, تأرجح الشباب بين صخب التطعيس وبهرج متاجر البضائع المستوردة في شارع التحلية بين الرياض وجدة.
فهل من سياحة تستطيع أن تقوم بقيافة خطى الغزلان, ريش الحباري, تنهدات المحار, قشعريرة المربعانية, صهيب الصيف, صهيل الأحصنة، تعدد اللهجات, تنوع الأمزجة, كبت المشاعر وبوح الشبكة العنكوبتية في تشكيل مكونات المكان وفسيفساء الأنفس. هذا هو التحدي الإبداعي والحضاري معًا الذي علينا أن نسأل أنفسنا عنه ونحن نخوض مغامرة السياحة والتحولات.
وأختم بقطرة من قصيدة لعبدالله الصيخان في هوى تيماء:
أيها الوطن المستبد
بنا لهفة وهوى
أيها المتحفز في دمنا
والمتوزع في كل ذراتنا
أعطنا بصرا كي نراك
وأوردة كي تمر بنا