د. محمد عبدالله العوين
أقلب أوراق التقويم فجأة فإذا عام (1440هـ) شاخصا كالشوكة، منتصبا كالألم، مشهرًا سيفه كالخصم بين يدين عاريتين إلا من حيرة وأسى وشكوى ونجوى وتذكر.
أربعون عاما مضت وانقضت بعد 1400هـ أربعون انسلخت من أعمارنا كما ينسلخ ليل من نهار أو حلم من يقظة أو صحوة من منام أو غيبوبة من وعي، أربعون ولت بما حملت من أحداث وأزمات وهموم وأفراح وأتراح، وبما تزاحم فيها من خير وشر ومن وجوه باسمة وأخرى كالحة ومن مواقف مبهجة وأخرى مؤلمة، كأنني كنت مغمضًا عيني عن الزمن المسرع المتدافع، زمن يركض ونحن نركض معه ولا ندري أنه يسرق منا أعمارنا، ويختلس منا غير قليل من العنفوان وغير قليل من البهجة وكثيرًا من الأحلام.
لا تثريب على الزمن؛ ولا ملامة على السنين، نحن من نخطئ، نحن من يرتكب الآثام، نحن من يقترف العجز والتقصير، نحن من لا يعزم ولا يحزم ساعة تكون العزيمة واجبة وساعة يكون الحزم حتما لا خيار فيه.
أنناجي الزمن ونشكو إليه؟ أم نناجي أنفسنا ونشكو إليها؟! أم لا هذا ولا ذاك؛ فليس الزمن بسامع ولا أنفسنا بمستجيبة إلا بآهة حرى أو تنهيدة جارحة.
لن يتوقف الزمن كي يسمع نجوانا أو ينصت إلى شكوانا، أو يعود بنا إلى ما مضى لنصلح أمرًا أفسدناه، أو نتراجع عن قرار اتخذناه، أو علاقة بترناها، أو صلة قطعناها، أو موقف حرج لم نحسن التخلص منه، أو رد متعجل لم ندرك فجاجة وألم ووجع وقسوة تأثيره، أو جفاء غير مسوغ، أو مشوار حسن لم نكمل السير فيه، أو عزيمة فائرة أطفأناها، أو كسل خائر خدعتنا أيامه، أو بر بأب أو أم أو عم أو عمة أو خالة أو أخت أو أخ نتحسر على كل ساعة مضت قبل أن يغيبوا في عالم الصمت الأبدي لم نستثمرها في صلتهم والإحسان إليهم.
ياه، كم غاب من الوجوه التي بالكاد نستعيد شيئا من ملامحها؟ وكم اندثر من الأصوات التي تأتي نبراتها خافتة ضعيفة منسلة من بين طيات السنين، وجوه مستبشرة متوردة ضاحكة لم تعد تلك الوجوه؛ بل علاها شيء من كدر الفراق وشيء من قتامة الغياب، ووجوه جافة خشنة موحشة في حضورها القديم فزادها الغياب الحاضر تلاشيا ونسيانا.
أحقيق بك أن تستعيد أربعين عاما ولت لتتفحص حروفها ورقة ورقة ويوما يوما؟!
لم أنت متعلق بمن مضوا من الأحباب والخلان والأصحاب؟ ولم أنت متحسر على ما انصرم وانقضى وكأنك تريد أن تقبض على الزمن بكفيك وتحبس الأيام والليالي بين يديك؟!
أربعون انطفأت وكأنها أربعون نجمة خبت أو قمرا غاب أو شمسا غربت أو سحابة سخية تلاشت.
أيتها الأربعون المتدافعة الراكضة هل تعودين؟!
ليتك أبطأت سيرك، ليتك تريثت في نهبك ونحن عنك لاهون غافلون.