د.محمد بن عبدالرحمن البشر
في عقود مضت، ولا أقول قرون، كانت وسائل التنقّل المتاحة، والمستخدمة من قبل تلك الأجيال، هي الدواب، من خيل وجمال وبغال وحمير، وقد أدركت من كبار السن، من استخدمها في الذهاب إلى مكة المكرمة، وغيرها، ومن استخدمها في الحروب، وفي الذهاب والإياب للأماكن القريبة، وقد أدرك أولئك النفر في فترة تلت وسائل مثل السيارات والقطارات والطائرات، وشاهدوا التلفاز، وتحدثوا عبر الهاتف الثابت.
أدركتهم وهم يصفون لنا كيفية حصولهم على الماء من البئر أو من السقاء أو الراوية التي تحمل على رأسها إناء تملؤه بالماء إلى منزلها، أو منزل غيرها، لتأخذ عليه، أجراً يسيراً، يسد رمقها، وغير ذلك كثير من أنماط الحياة التي كانت سائدة.
كنت شغوفاً بمعرفة إحساسهم ومقدار سعادتهم في ذلك الزمان، مقارنة بالزمن الذي تلاه، وكان الأغلب يقول مع البون الشاسع في سهولة الحصول على الخدمة، إلاّ أن مقدار العائد من السعادة يكاد يكون واحداً، فهم يفرحون لحظات أو فترات الفرح، ويترحون في أيام أخرى، بمقدار يكون متساوياً.
كانت منغصات الحياة نسبية، وتكاد تكون النسبة واحدة، وهي لا ترتبط بنوعية الخدمة، وإنما بالتعامل البشري في الحصول على تلك الخدمة المتاحة في ذلك الزمان، فمن كان يأمل أن يحصل على حصان بدل جمل لديه، وحصل عليه، فإنه يشعر بسعادة مماثلة لذلك الذي حصل على سيارة غالية الثمن، بدل تلك المتوسطة الثمن، فالشعور واحد، ولكن ما يمثّل الفارق، هو ذلك التعامل البشري المرتبط بالحصول على الخدمة، فمن حصل على الحصان بدل الحمار مثلاً، بقروض من هنا أو هناك، أو بطرق أبواب اللؤماء الذين ربما اعتذر منه عدد غير يسير، أو تجاهله آخر، وربما نهره آخرون، ثم يحصل عليه بعد إذلال، فقد نال مبتغاه لكن دفع ضريبة بنسبة كبيرة للحصول على السعادة المرجوة، وهكذا لمن هو في زماننا، لذا فإن التعامل البشري يلعب دوراً كبيراً ومهماً في مقدار السعادة التي يجنيها الفرد في كل زمان ومكان، ونحن لا نختار الزمان الذي نعيش فيه، لكننا سنعيشه أياً كان.
كان أكثر ما يؤرِّق الذين عاشوا في ذلك الزمان هو الأمراض شفانا الله وإياكم فليس هناك مسكنات، أو عمليات جراحية أو أدوية تخفف من ألم المرضى، وما يؤرّقهم أكثر أيضاً هو الأوبئة التي تجتاح مدناً بأكملها فيموت الكثير، ومن كتبت له النجاة يعيش ألم فراق الأقارب والأهل والأصدقاء والجيران، ويمتد ذلك طويلاً.
كُتب التاريخ في أزمنة مضت مليئة بالنثر، والشعر الذي يعبّر عن الحزن والألم، كما يعبّر عن الفرح والسرور والسعادة والبهجة، ويقول الشاعر:
قل الزمان قد تولى نعيمه
ورث على مر الزمان رسومه
إلى أن قال:
عليك من الصبّ المشوق سلام.
فهناك نعيم وسرور وبهجة، وهناك زوال لتلك الأيام والليالي الرافلة بالسعادة والمسرة.
ولعل بيتاً لحسان بن ثابت يصف لنا أن السعادة ونقيضها أساسها التعامل البشري، حيث يقول:
إِنَّ اِمرَأً أَمسى وَأَصبَحَ سالِماً
مِنَ الناسِ إِلّا ما جَنى لِسَعيدُ
السرور والعناء متاحان عبر العصور، منذ نشأة الخليقة، وهما كذلك في هذا الزمان مع تغيّر الأدوات التي تسهل سبل الحياة، فتجد مثلاً أن عهد الخليفة عبدالرحمن الناصر الأندلسي استمر نحو خمسين عاماً، فيه من النجاح العمراني والعلمي ما يفوق الوصف، لكن كان هناك الكثير من الحروب، والتآمر، والقحط وغيره من الظروف الطبيعية، وتلك التي أوجدها الإنسان، ما جعل التوازن بين السرور وغيره متقارباً.
وهنا يمكن القول إن تغيّر أنماط الحياة وتوفر سبل الراحة المادية كما هي الحال في زماننا يمكنها أن تجلب الراحة، لكنها لا تقدر أن تزرع السعادة في قلوب الناس أو أن تدفع المعاناة، كما أن عدم توفرها لا يعني عدم تمتع المحرومين منها بالسعادة والبهجة وهكذا ستكون الحياة مهما قدَّم لنا العلم من أساليب الراحة.