د. يوسف بن طراد السعدون
أولت القمة العربية الأولى اهتماماً خاصاً لقضية مكافحة التطرف واحترام الأديان. حيث نصت الفقرة 14 من «إعلان شرم الشيخ» الذي صدر يوم الاثنين 25 فبراير 2019 في اختتام أعمال القمة على: (أعدنا التأكيد عزمنا على مكافحة عدم التسامح الثقافي والديني والتطرف، وتجنب القوالب السلبية، والوصم والتمييز المؤدي إلى التحريض على العنف ضد الأفراد بناء على دياناتهم أو معتقداتهم، وندين أيّ ترويج للكراهية الدينية ضد الأفراد بما يمثل تحريضاً، أو عداءً أو عنفاً، بما في ذلك من خلال شبكة الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي).
ولكن، قبل أن يجف حبر ذلك الإعلان، وفي اليوم اللاحق للقمة، اندلعت حملة في فرنسا ضد الإسلام وبعض الدول العربية، بسبب إعلان شركة الملابس الرياضية الفرنسية ديكاثلون على موقعها الإلكتروني عن قرب تسويقها حجاب رياضي للعداءات. وترتب على تلك الحملة، إلغاء الشركة خططها لتسويق ذلك المنتج في فرنسا. وتضمن التصريح الذي أصدرته الشركة، ونشر في صحف عالمية عديدة بتاريخ 26 فبراير 2019، أنها اتخذت هذا الإجراء بسبب ما تعرضت له من حملات عنف، فقد تلقت في يوم واحد أكثر من 500 اتصال هاتفي ورسالة إلكترونية تضمنت سباب وتهديدات للعاملين.
والهجوم الذي تعرضت له الشركة، مع شديد الأسف، شارك فيه سياسيون فاعلون في الحكومة والأحزاب والبرلمان الفرنسي، وكان مبنياً على أفكار تتسم بعدم التسامح الثقافي والديني والتطرف والتحريض على العنف ضد الأفراد بناء على دياناتهم أو معتقداتهم وتروج للكراهية الدينية ضد المسلمين. وهذا الأمر بالطبع يتضمن مخالفة صريحة لما تم التوافق عليه في إعلان شرم الشيخ.
حيث غردت على تويتر السيدة مارين لوبان رئيسة حزب الجبهة الوطنية الفرنسي في 26 فبراير 2019 قائلة: (المال لا يبرر كل هذا الخضوع وكل هذه الاستفزازات. لنكن يقظين لا يجب أن لا نخضع أبداً بعد الآن لهذه الضغوط الإسلامية المتعارضة مع حضارتنا). وأشارت السيدة أنييس بوزين وزيرة الصحة الفرنسية في مقابلة تلفزيونية إلى (أن هذا لا يتماشى مع قيم بلدنا.. وأفضل أن لا تقوم علامة تجارية فرنسية بالترويج للحجاب). كما غردت السيدة أوروري بيرغ المتحدثة الرسمية لحزب الرئيس الفرنسي ماكرون «الجمهورية إلى الأمام» منتقدة الحجاب الذي أعلنت عنه شركة ديكاثلون قائلة: (إن خياري كامرأة ومواطنة هو عدم الثقة بعلامة تجارية لا تتماشى مع قيمنا، وسوف أقاطعها). وتمادي السيد نيكولا ديبون إينيان رئيس حركة «انهضي يا فرنسا» في ازدراء قيم ومبادئ الدين الإسلامي واحتقار المسلمين قائلاً في تغريدته: (لدي بنتان ولا أريدهما أن تعيشان في بلد ذات رؤية رجعية لقيمة المرأة مثل السعودية، وأحث من جانبي على مقاطعة شركة ديكاثلون).
إن ما تؤمن به وتتبناه فرنسا بشكل خاص وأوروبا بشكل عام، أمر خاص بهم يقررونه لمجتمعاتهم وعلى أراضيهم وفقاً لما يرونه مناسباً مع خياراتهم وقيمهم، فهذا جزء من سيادتهم التي لابد أن نحترمها وليس من المنطق الجدال فيها. ولكن من المهم أيضاً في هذا الأمر، أن يدركوا أن حقوقهم تلك لا يمكن لها أن تتطاول على أو تتجاوز حقوق مجتمعات أخرى تعيش إلى جانبهم في هذا العالم، ولديها أيضاً سيادات وقيم وأديان ومبادئ وعادات وتقاليد تميزها وتعتز وتتشبث بها، وعليهم احترامها.
فهذا الاحترام المتبادل يعد مقوماً أساسياً للاستقرار والسلام على الأرض ويمهد الطرق للتعارف والتعاون لما فيه الخير لجميع أبناء البشر.. وهو ما نصت عليه المادة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي أوردت أنه (يولد جميع الناس أحرار ومتساوون في الكرامة والحقوق، وهم قد وهبوا العقل والوجدان.. وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضاً بروح الإخاء). ونحن المسلمون من جانبنا نؤمن به ونحترم الاختلافات بين المجتمعات والدول وأبناء البشر. فالله -عز وجل- يقول في سورة الروم: 22 {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ}.. ويقول في سورة هود: 118 {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ }.. صدق الله العظيم.
ولا أشك بتاتاً، أن هناك نخبة كبيرة من السياسيين وذوي الفكر والشرفاء الفرنسيين والأوربيين يدركون هذا الأمر تماماً، ولا يرضون البتة حملات الازدراء والتحريض ضد الإسلام والمسلمين، التي قد يتبناها مجموعات من ذوي الفكر المتطرف لديهم. فتلك النخبة تعي أن مثل هذه الحملات لن تؤدي إلا إحاقة الأذى بدولهم وشعوبهم جراء حرقها للجسور الميسرة لتبادل المصالح مع الشعوب المسلمة وفقدانهم بالتالي فرص الاكتساب. ويعون أيضاً، كما نحن وعينا جراء معاناتنا السابقة، أن هؤلاء المتطرفون يعانون من قصر نظر شديد بالرؤية الإستراتيجية ولا يراعون مصالح دولهم وشعوبهم، بل يهتمون فقط بتحقيق مكاسب سياسية شخصية آنية لأنفسهم.
عموماً، أن أكثر ما أثار استغرابي في حادثة شركة ديكاثلون والحملة الهوجاء التي أثارها حفنة من المتطرفين ضد الإسلام، أنها أتت في اليوم التالي لختام أعمال القمة العربية الأوروبية. وأخذا بالاعتبار ما اتفق عليه في إعلان شرم الشيخ، أود أن أطرح التساؤلات التالية:
1- لماذا لم تصدر الحكومة الفرنسية رسمياً أيّ شجب لما تم من تحريض أو ازدراء للدين الإسلامي؟.. ولماذا لم تقدم الاعتذار للمسلمين؟.. ولم تحاسب المسؤولين الفرنسيين الذين شاركوا بالحملة؟.. فذلك لا يتوافق مع ما التزمت به في القمة العربية الأوروبية.
2- لماذا لم يصدر الاتحاد الأوروبي من جانبه أيضاً إدانة لما تم من تحريض أو ازدراء للدين الإسلامي؟.. ولم يتخذ خطوات عملية في هذا الشأن تدل على التزامه بما تعهد به ضمن الفقرات 14، 15 من إعلان شرم الشيخ..؟.
3- لماذا منظماتنا الإقليمية كالجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي وغيرها من المنظمات والهيئات، لم تحرك ساكناً في هذا الأمر وكأن الأمر لا يعنيها..؟.
أما غير المستغرب لدي في هذا الأمر، فهو ازدواجية المعايير والنفاق السياسي لدى عدد من حكومات الدول الغربية.. حيث نجدها تطالب الدول العربية والإسلامية بمراعاة تطبيق قواعد حقوق الإنسان وحرية التعبير، وبمعايير لا تراعي الثقافة أو الدين أو العادات والقيم. ولكن عندما يتصل الأمر بمجتمعاتهم فالأمر مختلف، فليس عليهم مراعاة تطبيق إلا ما يتناسب مع معايير قيم وثقافة مجتمعاتهم، ويضربون بعرض الحائط قواعد حقوق الإنسان وحرية التعبير.
والله ولي التوفيق،،،