حمّاد السالمي
* منذ فجر التاريخ؛ والإِنسان يكتب ويرسم وينقش ويصور؛ مستخدمًا ما توفر له من وسائل صخرية وشجرية وجلدية وغيرها. كان الكتاب المخطوط على ورق من الشجر وخلافه؛ إلى أن ظهر اختراع مطبعة (يوهانس غوتنبرغ) نحو العام 1440م، العام الذي صادف دخول الكتاب المطبوع والصحيفة المطبوعة في العصر الصناعي. فقبل 579 عامًا؛ ولد الكتاب الورقي، وولدت الصحيفة الورقية؛ وغير معروف سنة وفاتهما؛ بعد أن ولد في هذا الزمان؛ كتاب آخر رقمي، وصحيفة أخرى رقمية.
* بالنسبة لي شخصيًا- حيث كانت لي منذ الصغر علاقة متينة، وصلة وطيدة بالمعرفة المكتوبة- فإن الكتاب الورقي هو أقرب الأقربين، وأصدق الأصدقاء. وهو الذي أخذني إلى البعيد، وقرب إلى البعيد. فهو كما قيل: (ليس ثمة سفينة كالكتاب، تنقلنا بعيدًا بعيدًا). وفي حبي لهذا الصديق اللدود؛ أتمثل بقول من سبقني في حبه: (أحب الكتاب، لا لأني زاهد في الحياة، ولكن لأن حياة واحدة لا تكفيني). الكتاب حياة ثانية.
* عرفت من خلال صديقي الكتاب؛ أكثر من عشرة آلاف من الأحبة والأصدقاء الأحياء منهم والأموات، حتى إني أقضي معهم معظم وقتي في مكتبتي الخاصة، وإذا سئلت وكنت بينهم، فإني أقول: أنا في المقبرة..! استئناسًا بتسمية الأستاذ الأديب علي العمير للمكتبة المنزلية، حيث أجد فيها أصدقاء أوفياء لا يغدرون، وكرماء لا يبخلون، وأهل علم ومعرفة مفيدين غير مؤذين.
* من أجل صديقي الوفي (الكتاب)؛ أرتحل من بلد إلى بلد، ومن مدينة إلى مدينة، ومن مكتبة إلى مكتبة. أتتبع جديد الكتب ومفيدها، وخاصة في معارض الكتب التي تزخر بهذه الكنوز العظيمة عادة، حتى لو ابتعت بعض الكتب ووجدتها عندي من قبل بعد ذلك، فهذا لا يحد من سعيي وراء الكتاب أينما كان. دأب أستاذنا الأديب الناشر (عبد الرحمن المعمّر)- وهو من السابقين في هذ الحب الخالد- دأب على نصحي في كل مرة أذهب فيها إلى معرض للكتاب قائلاً: (انتبه.. لا تأخذك العناوين، وتجذبك أغلفة الكتب في إصداراتها الجديدة، فقد تكتشف أنك تشتري ما لست بحاجة إليه، وما هو في مكتبتك من قبل)..! ثم يضيف: (اثنان لا يشبعان: طالب علم، وطالب مال). الحقيقة أني أنسى هذا النصح الثمين حين أقف مشدوهًا أمام عناوين الكتب، وأن هذا هو ما يجري معي في كل مرة، حين أفاجأ أني أشتري طبعات جديدة مطابقة لطبعات هي عندي من قبل. حصل معي قبل أشهر في معرض الكتاب بجدة، وسوف يحصل معي في معرض الكتاب في الرياض بعد يومين، حيث تلقيت دعوة كريمة من وزارة الإعلام لحضور شرف الاحتفال بالكتاب في العاصمة الرياض. شكرًا وزارة الإعلام.
* كان الكتاب منذ ظهوره؛ وسيلة حفظ ونشر معرفية فريدة. كان إلى جانب الصحيفة الورقية؛ وسيلة للتواصل الثقافي والحضاري بين أمم الأرض كافة؛ وحتى مع ظهور المذياع والتلفزة؛ ظل الكتاب الورقي وما زال؛ وعاءً معرفيًا حضاريًا يوثق به في كافة الأوساط، فهو الأب الروحي لكافة العلوم البشرية على مر التاريخ، وهو المعلم الأول الذي يتتلمذ عليه طلاب العلم منذ صغرهم حتى يصلوا إلى درجة المساهمة في تأليفه ونشره، وهو الصديق الصدوق الذي يقبع على أرفف المكتبات العامة والمنزلية؛ في انتظار طالبي التنزه المعرفي، وراغبي المتعة الحقيقية. قيل للخليفة المأمون: (ما ألذ الأشياء..؟ قال: التنزه في عقول الناس). يعني القراءة في الكتب. ومما قال (ترولوب): (عادة المطالعة؛ هي المتعة الوحيدة التي لا زيف فيها. إنها تدوم عندما تتلاشى كل المتع الأخرى). ويكفي أن عباقرة العالم، وعلمائه، ومخترعيه، وفلاسفته، وأدبائه؛ تخرجوا من مدرسة المكتبة وما يكتب الكَتَبة. سئل (نيوتن) عن سر عبقريته فقال: (لقد وقفت على أكتاف العمالقة الذين جاؤوا قبلي). يعني قراءته لكتبهم.
* هل الكتب سواء؛ في جديتها، ونزاهتها، وصدقها، ونفعها..؟ بالطبع لا. أنا حين أقول: الكتاب صديقي؛ فإني أقصد به الكتاب الجاد غير الهازل، والنزيه غير المزيف، والصادق غير الكاذب، والنافع غير الضار. أعجبني تشبيه بديع للكتب منسوب للأديب الكبير عباس محمود العقاد قال: (إن الكتب مثل الناس، ذلك أن فيهم السيد الوقور، وفيهم الكيس الظريف، وفيهم الجميل الرائع، وفيهم الساذج الصادق، وفيهم الأديب، والمخطئ، والخائن، والجاهل، والوضيع، والخليع).
* هل هناك متعة أجمل من صحبة الكتاب، وصداقة الكتاب..؟ كنت أظن أني وحدي من يدمن عادة القراءة السريرية التي لا يقطعها إلا النوم؛ حتى وجدت أصدقاء كثر مثلي في هذه المتعة. قال بعضهم؛ وقوله حق: (احتَضِنْ الكتاب الذي يزرع بك الدهشة. دعه ينام على صدرك، تنفس صفحاته، ادخله روحك، ليرافقك بأحلامك). وقد قال الشاعر:
أوفي صديق إن خلوت كتابي
ألهو به إن خانني أصحابي
لا مفشيًا سرًا إذا أودعته
وأفوز منه بحكمة وصواب