د.ثريا العريض
في عصر انفلات الإرهاب والتطرف والشعبوية والمخدرات والدعشنة وتفجير النفس لقتل عابرين في دروب المصادفة, من يمثل وجدان الأمة؟
الشاعر؟ الفنان؟ الفيلسوف؟ العالِم؟ واضع التشريعات؟
وأين منهم رجل الشارع الذي قد يفهم أو لا يفهم ما يقوله الآخرون؟
الشاعر, ولا أعني بذلك ناظم الكلمات, مشغول أبدا بارتطامات المشاعر في أعماقه تحركها تفاعلات المجتمع والطبيعة والأصداء من حوله, ينفعل بها ويتفاعل معها فتفيض حروفا مضيئة أو ملتهبة, ترسم لقاءاته بذلك الواقع خارجه, وقد لا تعبر حدود تعبيره إلى استيعاب الآخرين تفاوتاً مع ما هو مسموح به سياسياً واجتماعياً على مستوى الكلام الواضح.
والفنان, المعني بتشكيل الواقع بيديه, مشغولٌ أبداً باصطياد لمحات من ذلك الواقع, وتجسيدها فوق لوحاته, أو في مجسماته, مترجماً إحساسه الداخلي في صورةٍ حسيّة تلمسها العين واليد بصيغة تقليدية أو تجريدية, وربما لا يصل ذهن الناظر إلى استيعاب معانيها وتفسير مضامينها, فيعجز عن استيعاب المثاليات من خلالها.
والفيلسوف مشغول باستقراء الأزلي من تفاعلات الإنسانية عبر التاريخ, دوافعها, ومؤثراتها, ونتائجها, وتداعياتها. يتأمل كل ما يسبب ابتسامات البشر, أو دموعهم ليجري عليه تحليلاته الفكرية. ويسعى باستمرار إلى اختزال التجربة الإنسانية في تعريفات تستوعبها النخبة فقط.
والعالِم مشغول بتحليل ما يجري حوله من متكررات التأثر والتأثير والتفاعل المادي في مكونات الطبيعة المحسوسة الملموسة المقاسة, ليطلع منها بمعادلات منطقية يسخرها في مستجدات العلم ومبتكرات التقنية.
والمتعامل مع الذكاء الاصطناعي يحلق بعيدا في آفاق عوالم افتراضية.
أما رجل الشارع فهو ذلك الفرد العادي الذي لا تتأزم عواطفه إلى درجة التدفق شعراً, ولا يملك موهبة أن يصوغ الواقع في إبداع فني, أو تخيل افتراضي, ولا ينصرف ذهنه إلى دوائر حيرة تمتصه جرياً وراء تفسير ما يرى حوله. إنه باختصار المتلقي لإبداعات الآخرين والعاجز عن تسيير ذاته, يعود إليهم يستقي منهم مفاهيمه, تحركه كلمات الشاعر.. ويتأثر بإبداعات الفنان ويتابع تعريفات الفيلسوف, وتفسيرات العالِم مقتنعاً أنه سيلمح الحقيقة أو يلمسها, وينسى أن العبقري نفسه لا يستوعب كل الحقائق, بل غالباً ما يتوه عنها في تعطشه للمطلق.
عندها تتجه أنظار رجل الشارع إلى أهل التشريع طلباً للحقيقة. والمشرّع من يتأمل معالم التجربة الإنسانية وتاريخ تفاعلات البشر, وفي أفضل الحالات يقيسها بموازين القيم بواقعية المخطط لمجتمع أفضل, كما يراه المشرّع يحاول التوصل إلى صيغ تحدد التعامل بين الأفراد والمجموع.
وعند المشرّع يجد رجل الشارع مبتغاه، القيود التي تحدد مساره لكي لا يضيع بين فرديته والواقع والمثاليات. هكذا تطورت البشرية من الغرائز التي سيرت رجل الغاب حتى قوانين حمورابي, وصولاً إلى النصوص المقدسة على اختلاف وتشابه تفاصيلها وتفاسير البشر لها. ويظل ما يجمع البشر هو عجز الإنسان العادي عن الالتزام بهذه القوانين دون إلزام. ولهذا حين يقفز فوق الشريعات يسقط في هوة التناحر ميت الوجدان.