د. محمد عبدالله العوين
كانت مكتبة الحرمين لصاحبها الوهيبي فاتحة اقتناء الكتب والغرام بها، فبعد أن قطعنا النهر الجاف إلا من رائحة غير طيبة من بقايا تسربات مياه الأحياء القريبة عبر الجسر الخشبي المتهالك ويدي بيد والدي القابضة على كفي خوف التأخر في العبور أو التعرض للسيارات العابرة أو العابثة أو اللاهية قال: أعرف بغيتك وما تريد في هذا الشارع، سأدعك هنا بين هذه المكتبات المتتابعة، وستجد ما يسليك إلى أن أعود من سوق الساعات القريب.
لقد نسيته ونسيني، فهو مولع باقتناء القديم والمميز من ساعات الحائط الخشبية التي تدق دقة واحدة بصوت عال عند كل نصف ساعة ثم تدق بعدد الساعات وقلبها الذهبي الذي لا يتعب ذاهبا يمنة ويسرة نابضا بالحياة، ومولع والدي أيضًا بتلك الساعات الصغيرة ذات السلاسل التي تخبأ في الجيب العلوي ويطلع عليها عند الرغبة في معرفة الوقت، لقد أحب ساعة «أم صليب» شديدة السواد للمينة والاخضرار للأرقام والعقارب غير أنه ما كان مرتاحا لرسم صليب صغير في وسطها فعمل جاهدا على طمسه بعد أن ارتدى نظارة ذات عدسة مكبرة لعين واحدة تلتف حول أذن واحدة تشبه تلك التي كان يلبسها سيئ الذكر «موشى دايان» فكنت أجد المفارقة على أشدها بين الشخصيتين، وما أبعد ما بينهما في الرقة والمشاعر والعطف والنقاء وحب الخير والسعي إليه، كان مولعا باكتشاف أسرار الصناعة ومعرفة خباياها؛ كيف تعمل الساعة كيف تتحرك السيارة كيف تنطلق الرصاصة من البندقية أو المسدس كيف تدب ماكينة الخياطة تنسج الثياب نسجا وترتق فتوقها؟ وجد بغيته ما ناء بحمله في سوق «الكويتية» ووجدت ما ناء كاهلي الصغير بحمله، لقد تعرفت لأول مرة على روايات جورجي زيدان ونجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس، وجدت نفسي هائمة بين مجلة «الهلال» وملحقها «الزهور» وعدسة أوسكار متري في مجلة «العربي» كنت ألقي نظرة سريعة على الشارع لأتأكد من عدم مجيئه والبائع اليماني الذي يهدر بكلام لا أفهم إلا أقله يرتب ما اشتريت في كراتين صغيرة وينادي أحد الحمالين فيكاد يسقط عند عتبة الباب بعد دفع عربته الخشبية التي تدور على عجلتين صغيرتين.
انتقلنا من مكتبة الحرمين وما بعدها من مكتبات في البنايات المجاورة وأحكمت إغلاق الكراتين بلاصق قوي كي لا تبدو أغلفة المجلات المزينة بصور الجميلات كالعربي وآخر ساعة والمصور والهلال وروايات الجيب الغرامية فيغضب الوالد، بل قد لا يكتفي بإظهار عدم رضاه فربما انتهى الأمر بقذفها في نهر البطحاء الجاف إلا من رائحة تزكم الأنوف.
اندفع اليماني أمامنا بساقين نحيفتين عاريتين كأنهما عصوان محملا بنصف متاع لي ونصف متاع آخر لوالدي وكأنه يعلم أين نريد وإلى أين نحن ذاهبان، التفت إليه الوالد بأبوة وشفقة وقال له: إلى حراج بن قاسم بجانب الجامع الكبير أيها الفتى الرشيق، ونقده خمسة ريالات؛ فتهلل وجهه ممتنًّا متمتمًا بكلام لم أفهم منه شيئا.. يتبع