د. فوزية البكر
منذ ظهور المقالة الشهيرة (صراع الحضارات) لعالم السياسة الأشهر في جامعة هارفارد صمويل هاننجتون، التي نشرها عام 1993 في مجلة فورن افيرز، ثم أتبعها بكتاب أكبر يحمل العنوان نفسه تقريبًا، والعالم في جدل عميق حول طبيعة الصراعات الدينية والثقافية بين شعوب الأرض من أعراق وديانات مختلفة.
محور فكرة هاننجتون في كتابه (صدام الحضارات) أن البشر في حقبة ما بعد الحرب البادرة التي كانت مشتعلة في الستينيات أخذوا يكتشفون من جديد هوياتهم الثقافية التي أصبحت تعني لهم أكثر مما يعنيه أي شيء آخر؛ ولهذا السبب أصبحنا نرى تأكيدًا لكثير من الرموز الدينية للدلالة على الهويات الثقافية القديمة. ومع استعراض المؤلف نماذج تاريخية بعيدة وقريبة لا يُخفي قلقه من اندلاع حروب بين الأعداء الحضاريين القدامى، خاصة وكما يقول «فإن البشر الذين يبحثون عن هوياتهم الثقافية، ويعيدون الارتباط بالأعراق التي ينتمون إليها، بحاجة إلى أعداء يؤكدون لهم اختلافهم». ومن هنا فالفكرة الأساسية للكتاب هي أن الثقافة والهويات الثقافية بكل ما تحمله من مفاهيم دينية وثقافية (أي حضارات العالم عبر تاريخه) ستشكل في حقب قادمة أنماطًا كبيرة ومقلقة للصراعات والصدامات والتفكك بين الدول، وفي داخل الدول نفسها.
نحن نرى فعلاً على أرض الواقع الكثير من الصراعات داخل الثقافات نفسها، وداخل الدين الواحد نفسه (شيعة، سنة، نماذج داعش المتطرفة.. إلخ)، وهو الأمر الحقيقي بالنسبة للديانات التوحيدية والمعتقدات الثقافية كافة التي يتصارع فيها الناس على تأكيد الانتماء. وهذه ليست مشكلة في الحقيقة، بل المشكلة حين تعتقد ثقافة ما أنها هي الأكمل، وأنها هي من يجب أن تفرض نموذجها على الآخر؛ وهنا يحدث الصراع والاقتتال.
وقد مرت البشرية بحروب مدمرة، تكفي لتعليمنا دروسًا قاسية من خلال تذكر أن الحرب العالمية الثانية وحدها قد حصدت أكثر من 66 مليون إنسان؛ لذا فعلينا اليوم أن نعمل معًا وبعيدًا عن حمى تراشق التهم والعنصريات المتطرفة التي يؤججها الإعلام المسعور والاستخدام الخاطئ لوسائل التواصل الاجتماعي، ونتكاتف ضد موجات الكراهية أين كان مصدرها حتى نحمي كوكبنا من التدمير بفعل إثنيات وأفكار متعصبة ومتطرفة.
ما فعله هذا المتطرف الأسترالي في نيوزيلندا من قتل الخمسين مسلمًا، والنشر المباشر لعمليات القتل عبر حسابه على الفيس بوك، يجب أن لا يدفعنا إلى ردود أفعال متطرفة ومتحيزة. التطرف يجب أن لا يواجَه بالتطرف، بل بالكلمة العاقلة والفهم الكلي للمصالح الإنسانية العليا، والعمل على مزيد من التواصل السلمي لفهم الثقافات والأديان الأخرى.
في دراسة حديثة، أجراها مركز بيو للدراسات، وُجد أنه في أوروبا الغربية معرفة أحد المسلمين أو العمل معه أو القرب منه تجعل من المحتمل أن يكون هذا الشخص أكثر تقبلاً للإسلام والمسلمين. هذا يعني أن بعدنا أو جهلنا بثقافة ما قد يجعلنا أكثر تعصبًا وتعنتًا تجاهها، وهو ما يؤكد ضرورة التواصل الحضاري بكل أشكاله بين البشر لمنع الاحتقانات التي قد تهدد الكرة الأرضية.
الغرب لا يكرهنا هكذا وبالجملة، كما أننا لا نكرهه أيضًا. يوجد متطرفون على الجانبين، وهم يحدثون الفوضى أينما ظهروا، لكن لا يجب أن يقاد العالم بالمتطرفين والفوضويين بل بمحبي السلام والنماء للبشرية والأوطان.
على كل واحد منا أن يبدأ بنفسه، ويتلفت حوله ليرى الآخر المختلف لونًا أو عقيدة أو جنسية، ويبدأ بتعريفه بنفسه وحياته ومعاملاته حتى يكون هناك مساحة للفهم الإنساني، تبعد هذه الأفكار الغامضة الغائبة في اللاوعي التي تحاول تدمير حضارتنا الإنسانية، هذا إضافة إلى العمل المؤسسي من خلال قنوات لا تحصى ولا تعد، منها الجامعات والسفارات والمراكز البحثية والحوارية، ومن خلال إبعاد المتطرفين عن وسائل الإعلام، وضبط الاستخدام المسيء لوسائل التواصل الاجتماعي.
العالم هو نحن، وحمايته تبدأ بواسطة كل منا حين يتمثل واجبه الإنساني، وبالدفع داخل حقولنا العلمية والمهنية والأسرية والمؤسسية لخنق الأصوات المتطرفة كافة أين كان مصدرها. لا أحد يكره أحدًا لكن الكثيرين لا يفهمون بعضهم.