د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** اعتاد بعضنا في النقاشات العلنية العامة أن يتبنى مسارَ المحاكمة؛ فيدفع ويُدافع ويندفع، ويجد بجانبه قضاةً ومحلفين يقررون الحكم بجانبه أو ضدّه، وينتهجون طرقًا ملتبسةً ملتويةً يغيب عنها -في أحايين - المنطقُ والعقلُ واللغة؛ فلا يحفظون لكبيرٍ قدره، ولا لمقتدرٍ فضله ولا لفاضلٍ إيثاره، ولعل مبعث هذا المسلك اعتقالُ العقل في سجون الأدلجة والأقلمة والهوى، يسندها يسرُ النشر وعشوائية النثر وترفُّعُ العالي عن الدنوّ، ويقينه أن الساحة النظيفة التي تعفُّ وتكفُّ لا تأذن بالتداخل والتفاعل بل بالإعراض والتجاهل.
** من يصادر فكرةً جانحة أو جانيةً ويحشد لها الأتباع كي يقوضوا شخصها لا نصّها يفتقد العقل التفاعلي القادرَ على التحاور والإقناع بنفسه إن شاء أو عبر رؤى مرجعية موثقًا ومدققًا لا مستعليًا ولا مستعديًا، وسيفتقد مكانتَه- وإن احتفظ بمكانه- من يظن الحوار تجاذباتٍ غاضبةً أو إملاءاتٍ أبوية.
** عشنا زمنًا كانوا يسمون فيه «السجالات» الثقافية معارك، وتابعنا أكثرها أو قرأناه، وبالرغم من حدتها فقد أوجدت حراكًا آلَ بعضُه إلى مثاقفةٍ ممتدة ارتوت منها أجيالٌ متتابعة، ومع نعينا على بعضها تجاوزَها سمات الفروسية فأشبهت «النقائض- النواقض» مثلما حصل بين العقاد والرافعي وبين طه حسين وزكي مبارك فقد ظلَّ أكثرها ميدانًا للدرس، وربما خرج منها ما غيَّر مفاهيم وأطلق رؤى ومنح مساحاتٍ للنقاش الجاد، وإذ لم نعش وقعَها فقد عايشنا إيقاعها؛ كما في «تحت راية القرآن» و»أباطيل وأسمار» و»مصادر الشعر الجاهلي»، وفي كتاب الأستاذ أنور الجندي 1917-2002م الموسوم: (المعارك الأدبية في مصر 1914-1934م) ما يُشعر من يقرأُه بحجم الثراء المعرفي الذي أضافته.
** وفي الوطن شهد جيلنا نقاشاتٍ ضاجةً بين شيوخنا: «الجاسر والأنصاري والعطار وزيدان وابن خميس وابن إدريس والضبيب والمفدى والغذامي والهويمل والشيباني ومليباري» وغيرهم، ورشح عنها ما يستحق البحث فيه أو التعرف إليه عبر مظانه في الصحف والمصنفات، وظلَّ الجميعُ في سماء ثقافتنا دون أن ينزلوا عن عليائهم أو يتنازلوا عن قيم العدل والنبل، واعتذر من أحس من نفسه تجاوزًا بحق غيره فبقُوا كبارا.
** أشار الأستاذ وديع فلسطين في حديثه عن أعلام عصره -ج1-ص194-199 إلى أديبٍ لبناني عاش في مصر ومات في كولومبيا اسمه (حبيب زحلاوي) مثَّل ظاهرةً جعلت معظم مؤرخي الأدب المعاصر يُغفلون سيرته لأنه «فرض نفسه على الحياة الأدبية بأسلوب القبضايات حتى وصفه الدكتور زكي المحاسني بأنه لا يكتب بقلم وإنما يكتب بهراوة»، وفي كتابي زحلاوي: (أدباء معاصرون وشيوخ الأدب الحديث) أهوى بمطارقه -كما وسم فلسطين- على رؤوس رموز المرحلة «ولعله أحدث ضجيجًا ولكن دون طحن».
** فيه وفي أمثاله عبرةٌ لمن لم تغلبْ أناهُ أناتَه، ولم يعنِه انتشارٌ يعقبه اندثار، والعاقبةُ لمن عمل لمآله لا لمناله.
** الأخلاقُ مبدأٌ ومبتدأ.