د. محمد بن إبراهيم الملحم
أشرت إلى التركيز على أهداف بعينها للتطوير التعليمي لتسهيل قياس الأثر النوعي، وهذا لا يعني ترك القضايا الكلية مثل التدريس المتمحور حول الطالب مثلا، أو تحسين قدرات المعلمين في مهارات العلم الأساسية المهمة للتدريس (القراءة، الخط، الحاسب، مجال تخصصهم) وهكذا، بل هذه جوانب تطوير مستمرة للخطة التطويرية، ولكن لا يتناولها القياس النوعي بنفس درجة التركيز والحيوية التي يتناول بها قياس الأهداف ذات الطبيعة التركيزية (الفهم القرائي، الأمية الإلكترونية المتقدمة، الحوار والاستماع، لمهارات التعلم الذاتي) والتي تعكس أثر التعليم على تغيـير قدرات المتعلم بوضوح تام وفي مدة أقصر (3 شهور مثلا كما أسلفنا)، وبالتالي يكون القياس النوعي للقضايا الكلية (غير التركيزية) بمدى زمني أطول كأن يكون قياسا سنويا أو موسميا.
كل ما تقدم هو في مستوى قياس الكفاءة الداخلية النوعية (جودة إدارة العملية التعليمية وجودة تحقق أهداف المهارات التعليمية) وهناك مستوى آخر من القياس هو كفاءة النواتج خارجيا، فالأثر الناتج على المستفيد لا يظهر وهو ضمن الجهة التعليمية (كطالب) وإنما خارجها سواء كان الأثر المقاس متزامنا وقت وجود المستفيد في التعليم (كمواطن صغير يتفاعل مع المجتمع ويؤثر فيه سلبا أو إيجابا) وهو غالبا مرتبط بالسلوك أو بعد خروجه منه إلى مؤسسات أخرى، ويشترط لذلك أن تكون المؤسسات الأخرى واعية لأهداف التعليم وتحقق التكامل معه تطبيقا وقياسا، وهو قياس يقدم معلومات عن آثار التعليم على مهارات وقيم الفرد وسلوكه، ويقصد بمهاراته قدرته على تحقيق متطلبات الاستثمار في رأس المال البشري فهو كفرد ينبغي أن تكون جودة إنتاجيته (كما ونوعا) انعكاسا لما تعلمه في المدرسة (والجامعة) من مهارات وقيم عمل ولكن مالم تكن المؤسسات التي سيعمل فيها واعية لتلك المهارات والقيم، وما لم تقم بقياسها من خلال نفس الأطر والفلسفات التي انطلقت منها في المؤسسة التعليمية ثم تتحاور مع التعليم حول نتائجها فإن التعليم ربما يغرد في الفراغ دون أن يعلم هل هو ينتج فعلا أولا! كما أن المعادلة تعمل عكسيا أيضا: فما لم تكن المؤسسات التي يعمل فيها الفرد مطبقة لما تعلمه الطالب من أسس ومهارات في المدرسة (والجامعة)، فربما تطبق غيرها، فإن ما يقدمه التعليم سيكون ترفا أو عبئا ثقيلا لا داعي له! كل ما تقدم يعني باختصار ضرورة وجود قنوات تواصل أوجهات إشرافية تكفل هذا التكامل بين مؤسسات الوظيفة ومؤسسات التعليم في الاتجاهين.
هذا يعني ضرورة توفر خطة وطنية تتكامل فيها كل الجهات لتستهدف رأس المال البشري ويكون التعليم هو أداتها الأولى، ولا يقتصر ذلك على المهارات بل إن القيم تمثل الجناح الآخر للتعليم ومن أجله وجد ليتحقق الشرط الحضاري civilization فيتم التماهي مع القيم التي تقدمها المدرسة لدى كل مؤسسات العمل، فلا يجد تناقضا بين ما درسه وبين ما يطبق فيها! نفس الانضباط والتطبيقات والمعايير التي درسها، كما أن ما اكتسبه في التعليم حول قيم العمل واحترام الوقت وأهمية الانتاجية لن تكون مجرد أفكار هلامية تنظيرية وإنما هي التزام من مؤسسات العمل وهناك من يراقب هذا الالتزام وإن لم تكن أجهزة ومؤسسات رقابية فهي على الأقل قوانين وتعليمات حاكمة (اليوم يسهل علينا أن نثبت أن بعض المؤسسات ليس لديها قوانين صريحة نحو احترام قيم العمل أو الأخلاق عموما فالأمر اجتهادي بحت!) ولا يقتصر الأمر على الممارسات في مؤسسات العمل بل حتى في الأماكن العامة والشارع فلا ينبغي أن يشهد فيها الطالب فرصا للانفلات فوزارة الداخلية والعدل مثلا عندما تضمن انضباطية عالية جدا في اتباع القوانين في الأماكن العامة وترعى في الشارع الحفاظ على أخلاقيات التعامل الحضاري سيجد الطالب الذي درس هذه القيم في المدرسة مجالا حيويا نابضا بالتطبيق، كما يجد أن والديه في الحياة العامة (طوعا بقيمهم الذاتية أو قسرا بزخم تطبيق القانون) يطبقان تلك القيم الحضارية فعلا ويقدمان له (شاؤوا أم أبوا) القدوة الحسنة. وبهذه الطريقة سيكون قياس الكفاءة الخارجية النوعية للتعليم ممكنا وقابلا للتطبيق و«منصفا» وهذا هو الأهم، فكل أطروحات اتهام التعليم بالتقصير في تحقيق السلوك العام الحضاري لدى الأفراد غير منصفة تماما لأنها تلغي تماما شرط التكامل مع المؤسسات الأخرى وأدوارها الأساسية التي تضمن الجودة وتكمل الحلقة المفقودة.