أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: لا ريب أن (الحق) يأتي مجازاً بمعنى اليقين عينه؛ لوقوع المغيَّب كما جاء في الخبر الصادق المقابل بعلم يقيني؛ فيصح أن تصف الحق باليقين من باب إضافة الموصوف إلى الصفة إذا أردت تأكيد وقوعه؛ فيكون المآل (الحق اليقين)؛ فالمعنى أن هذا الخبر حق سيقع يقيناً؛ ووجه المجاز هنا إحلال المُخْبَر عنه محل الخبر الموصوف باليقين؛ ولكن لا يكون هذا التأويل في هذه الآية الكريمة هو الأوعب والأرجح؛ بل الحق ههنا هو وجود المُخْبر عنه بمشاهدة الحواس، وإدراك كل صفات وجوده من الحكمة والرحمة والعدل، وأن النعيم والنار هما الجزاء المستحق العادل من الرب سبحانه وتعالى بوعده ووعيده؛ فالنعيم في الآيات الكريمات هو جزاء المؤمنين الذي وعدهم إياه إحساناً منه وفضلاً؛ وبإحسانه جعله حقاً على نفسه سيعرفونه بكل الحواس، ويعرف الكفار الجنة رؤيةً من بعيد، ويطلبون من أهل الجنة أن يفيضوا عليهم مما رزقهم الله؛ فيدحضون طلبهم؛ لأنه محرَّم عليهم.. والعذاب هو جزاء الكفار الذي توعدهم به ربنا سبحانه وتعالى؛ وهو حق بلازم النص؛ فمن لم يؤمن بالعلم اليقين فجزاؤه نقيض جزاء من آمن بالعلم اليقين، وعمل بمقتضاه.. والحق ليس بمعنى اليقين دائماً؛ لأن اليقين صفة العلم؛ وإنما الحق هو ما وقع أو سيقع بعلم يقيني؛ ولهذا كان الحق متنوعاً بحسب نوعية وقوعه؛ فالحق وصف لله جل جلاله؛ لأنه واقع مغيَّب عنا على صفات الكمال المطلق والتنزه المطلق عن كل نقص وعيب، ونعلم عنه جل جلاله علم اليقين بخبره عن نفسه القائم يقينه على براهينه القطعية.. ونعلم علم اليقين: أنه خلق كل المخلوقات بالحق.. أي بالحكمة والعلم والإحسان والعدل.. والله يحق الحق بكل أنواعه بإظهار الآيات الموجبة اليقين، وإزهاق شُبه العناد، وتبيان منافع الخلق في دنياهم وآخرتهم.. والحق ما كان للفرد بسبب مشروع كالإرث والهبة والكسب الحلال؛ فهو حق بحكم الله.
قال أبو عبدالرحمن: وليس بصحيح تقسيم (ابن قيم الجوزية) -رحمه الله تعالى- عِلمَ اليقين، وحقَّ اليقين؛ فتصديقك بخبر رجل صادق: أنَّ عنده عسلاً قد يكون علم يقين، وقد يكون علم رجحان ، وقد يكون وهماً؛ فإذا أراك إياه صار خبره علم يقين، وصار إيراؤه عينَ يقين بحسب صحَّة إدراك حواسك وتفريقها بين العسل وما يشابهه في الرؤية؛ فإذا ذقته فأنت على حال عينِ اليقين لم تفارقها.. إلا أنَّ إدراك جميع الحواس أبلغُ في زيادة المعرفة لا في زيادة ما عرفته بإحدى الحواس.. أي أن ما أدركته من المعرفة بكل الحواس هو معرفة ما أدركته من كل جهاته، وما أدركته ببعض الحواس هو إدراك بعض أحواله.. وليس ذوقك العسل حقَّ اليقين بمعنى اليقين الحق؛ بل رؤيتك وذوقك نوع معرفة بما أخبرك عنه المُخْبِر، وتلك المعرفة جعلت الخبر علماً.. والحق هو مضمون الخبر؛ فهذا هو الأصل في معنى الحق.. والعلم اليقين هو وصف العلم به مغيَّباً، وعين اليقين هو وجود المُخبَر عنه بعلم يقيني حال الغيب كما هو عند وجوده في المشاهدة.. وليس ما ذكره (ابن قيم الجوزية) هو درجات اليقين؛ بل هو ثنائية بين اليقين والأمر المتيقَّن؛ فاليقين علم؛ لأنه قاطع، وهو عين اليقين بمعنى اليقين بعينه بالمعْرِفة؛ وهي المشاهدة؛ لارتفاع أي احتمال معتد به.. وهو حق اليقين بمعنى اليقين الحق؛ لمطابقته المعروفة بلا احتمال مُعتَد به؛ إذن المعروف يقيناً هو عين اليقين.. أي اليقين عينه؛ لأنه المطابق ما اعتقده المتيقن؛ وهو علم اليقين بمعنى يقين العلم؛ لأنه أعلى مراتب العلم، فهو فوق العلم الرجحاني؛ وهو حق اليقين بمعنى اليقين الحق؛ لأنه وُجِد حقاً كما اعتقده المتيقَّن؛ فالعلم والعين والحق صفات لليقين، وصفات للأمر المتيقَّن؛ وليست درجات لهما؛ وبإيجاز فالمعرفة مشاهدة مباشرة، والعلم هو ما وراء المعروف مما لم يُعْرَف بعد؛ وإنما عُلِمَ يقيناً أو رُجحاناً أحوالٌ للمعروف مُغَيَّبة.. عُلِمَ بخبر صادق عُلِمَ صدقه بالبراهين على صدقه، وامتناع كذبه، أو بالحس المكرر؛ وهو التجربة؛ وإلى لقاء في السبت القادم إن شاء الله تعالى, والله المستعان.