د. حسن بن فهد الهويمل
لقد أحدث هذا الكتاب ثورة نقديّة، تمثلت بأكثر من سبعة كتب، جاءت عناوينها مسجوعة:
- الروض الزاهر في محاسن المثل السائر
- الفلك الدائر على المثل السائر
- نشر المثل السائر وطيّ الفلك الدائر
- قطع الدابر على الفلك الدائر
- نزهة الناظر في المثل السائر
- نصرة السائر على المثل السائر(19)
ونقد النقد كما يقول قلقيلة: «من قبل ومن بعد هو أعمق العمق في الفهم، وأبلغ البلاغة في التعبير عن هذا الفهم».(20)
إنه مؤشر وعي مبكر بمهمة النقد، ووظيفته، ولو كان النقد العربي القديم انطباعيّا، أو ذوقيّا، أو جزئيّا أو عموميّا كما يدّعي المستغربون لما نسلت تلك النظريّات من عباءته.
وإذ عُرفت المنتديات، والنوادي، والصالونات في العصر الحديث كـ[ندوة العقاد] و[مي زيادة] والمدارس كـ[الديوان] و[أبولو] عُرف في التراث [أسواق العرب] و[مجالس الخلفاء] و[مجالس الشعراء].. وقد شكل هذا رافداً معرفياً، عزز جانب النقد، وشكَّل بيئات مختلفة.
كما أن طائفة من الشعراء أحدثوا ضجة حول مناحي شعرهم كـ[ المتنبي] الذي يقول بزهو:
أنام ملء جفوني عن شواردها ** ويسهر الخلق جرّاها ويختصم
لقد خلق شعر المتنبي بيئة جدلية، تولى كبرها خصومه كـ[الصاحب بن عباد] و [الحاتمي]، وأنصاره كـ [الآمدي] و [المعرّي].
ثم جاء [القاضي الجرجاني] في وساطته مشكّلا مذهباً نقدياً، حوى أبعاد النقد، حتى لقد حدد الاتجاهات النقدية، وملابساتها النقدية الذوقية، والحجاجية، وتفسير الظواهر الأسلوبية وقضية السرقات.
لقد استطاع النقد مواكبة المتغيرات الإبداعية؛ فشعر المولدين رفضه قوم، وأشاد به آخرون، وأدت الخصومة حول تلك الظواهر الإبداعية إلى تغير جذري في مناهج النقد، وتطور واضح في مجالاته.
لقد بدأ النقد - كما أشرت - ساذجاً جزئياً، وأحكامه عامة، وليست تفصيلية؛ ولكن الإسلام حين حدد موقفه من الشعر، ومن الكلمة الطيبة، والخبيثة، بدأ النقاد يتحرفون لنظريات تواكب التحول الجذري في الإسلام.
لقد بدأ التدوين، والتقعيد، وتنوع المعارف، والاهتمامات. وبدأت تظهر أصول النقد العربي فعرف مذهب [الأصمعي] و[ابن عتيق]، ثم تجلى التأصيل عند [الجمحي] و[بشر بن المعتمر] و[الجاحظ] و[ابن قتيبة] و[ابن المعتز].
وتجلت النحل والملل وآثارها؛ فكان [الجاحظ] أديب المعتزلة، وكان [ابن قتيبة] أديب أهل السنة والجماعة، فكان لكل طائفة أدباؤها وشعراؤها ونقادها.
في [العصر الحديث] اندلقت أقتاب المذاهب، والمناهج، وعاد المبتعثون يحملون آراءهم النقدية، ومناهجهم التي أخذوها على عجل، فكان أن أربكوا المشاهد النقدية العربية.
لأنهم ذهبوا إلى الغرب ببضاعة تراثية مزجاة، وعادوا من الغرب ببضاعة غربية مزجاة، وضَعفُ بعضهم المزدوج رَبَكَ المشهد، وجعل [النقد الحديث] مأزوماً على الرغم من الدعاوي والضجيج الإعلامي.
لقد بدأت الانحرافات في فهم الشعر والنقد على حد سواء، وتحول النقد إلى ناطق باسم الآخر، ومن أجل الآخر، وعلى ضوء منجز الآخر، ولكي يكرس الآخر سلطته وهيمنته جند عملاءه لهدم تراثهم، والتقليل من قيمته؛ بل أمعنوا في إنكار أحقيته في الوجود، إنه في نظرهم مرحلة تاريخية، لم تعد صالحة للاستمرار. ثقافتنا، ونقدنا مأزومان؛ هذه قضية مسلَّمة.
إن علينا أن نحاور أنفسنا، ونحاور الآخر على ضوء موروث يستحق الاستدعاء، وإن لم نفعل فإننا عملاء لثقافة مضادة، نخدمها لتكون بديلاً، لا رديفاً.
وإذ لا نريد الذوبان في الآخر فإننا في الوقت نفسه لا نريد التقوقع والانغلاق.
نقادنا المستغربون يجتهدون ما وسعهم الاجتهاد لاجتثاث شخصيتنا الثقافية من قواعدها، وإحلال ثقافة أخرى لا تحمل شيئاً من مكوناتنا الأدبية والثقافية والفكرية. إنها معادلة صعبة، لا بد أن نعيش تاريخنا، وحاضرنا، ومعاصرتنا، وقوميتنا.
والنقد الأدبي أحد المكونات الثقافية، وهو في الوقت نفسه الفعل القادر على تأصيل الذات، وتحديد الهوية.
لا يمكن تغريب النقد؛ لأنه فعل يؤصل ويحدد الوجود [لقد غلب على هذا النقد الاضطراب والارتجال، فالمعايير النقدية تسوى على عجل، والنقاد ينقدون دون تريث أو أناة
فتضطرب بين جلهم المناهج وتتداخل]21
معضلة مشاهدنا اتساع رقعة التجريب، والإغراق في المستجد النقدي، وما لم توضع الضوابط لاستعادة النقد، وإعادة صياغة مناهجه وآلياته، فإن المأزومية وزمن التيه سيطولان.
لقد أرق التشتت النقدي المثقف، وأرهق مشاعره؛ لأنه يوغل في الغموض والأسطرة، ويتخذ سائر المناهج اللغوية، والنفسية، والاجتماعية، والأسطورية مطايا له، يشذ بها عمّا نحن بأمسّ الحاجة إليه.
لقد قُرئ أدبنا وشعرنا بعيون مستعارة؛ فكان في ذلك شطح وإيغال في الغموض.
الإبداع العربي يحتاج إلى مناهج وآليات مناسبة، ومجرد النقل، والتمثل لمستجد الغرب، لا يزيد مشاهدنا إلا تيهاً، وتشرّداً، وتصعيداً للأزمات الخانقة.
نحن بأمسّ الحاجة إلى نظرية لسانية عربية، تمارس تحليل النصوص.
الدكتور [مازن الوعر] تقبل النظريات اللسانية الحديثة على الرغم من اضطرابها، وعدم استقرارها، ولكنه أراد أن يأطرها في نطاق اللغة العربية الفصحى المعاصرة، المراوحة بين [لغة القرآن] و[اللغة الكلاسيكية] الجاهلية، مراعياً الفوارق بين الصوامت، والصوائت العربية، ومثيلاتها في اللغات العالمية مقارناً بين نظريات التوليد والتحويل كما يراها [تشومسكي]، والنظرية الدلالية التصنيفية كما يراها [كوك]، ونظرية النحو العربي كما يراها علماء النحو العربي من عهد [الخليل بن أحمد] و[سيبويه] ومَن جاء بعدهما، وهو قد ضرب الأمثال بالتراكيب الفعلية، والاسمية، والاستفهامية التصديقية، والتصورية (22)
ومثْل [الوعر] الدكتور [عبد العزيز حمودة] في كتابه [نحو نظرية نقدية عربية].
لقد دعا إلى وصل ما انقطع محدداً موقفنا من التراث، وهو قد تحدث عن موقف المثقف العربي من التراث. وأدان هذه المواقف المتمثلة بالانبهار من منجز العقل الغربي، واحتقار منجز العقل العربي، وسبب ذلك ازدهار الفكر الحداثي، وقد أحال إلى كلمة موجزة لـ[محمد سالم الأمين]: «إن السبب في عدم تبلور نظرية بلاغية عربية معاصرة كامن في أن العديد من الدراسات التي مورست في حقلنا النقدي لم تراعِ في قراءتها الشروط البلاغية العربية.. الأمر الذي أسفر عن تغييب للعديد من خصوصياتنا في إجراء اللغة وفي توظيف البلاغة» (23). لقد عرّف الحداثة بأنها القطيعة مع التراث.
[حمودة] وهو بصدد التصدّي للحداثة في كتبه الثلاثة التي أثارت ضجة في الأوساط النقدية:
-المرايا المحدّبة من البنيوية إلى التفكيك.
-المرايا المقعرة نحو نظرية نقدية عربية.
-الخروج من التيه دراسة في سلطة النص.
يؤكد أهمية وضع نظرية لغوية عربية، ونظرية أدبية عربية، ونظرية نقدية عربية؛ تستصحب التراث، ولا تكتفي به. إنها رؤية متوازنة، لو أخذ بها لحفظ للتراث حقه، وللمعاصرة حقها. ولكن المشهد لما يخرج من التيه.
نقدنا العربي لم يكن مجتثاً ولا عاجزاً عن مواجهة النوازل، إنه بحاجة إلى من يستوعبه، ويرحل به، ولا يرحل إليه.
إن أصوله الفكرية تشي بعراقته، وتوفره على المنهج، والآلة، ولاسيما أن ميدانه الشعر، والشعر يمدّ المعارف كلّها؛ بل يهيمن عليها كلّها.
لقد وضع نقدنا العربي قيمة للإبداع، والإلهام، والطبع، والصنعة، والتجربة. وهذه الأصول حفظت له الثبات والتوازن، وهو قد عالج الصياغة، والمعنى، والجرس، والإيقاع، والوحدة بكل تنوعاتها اللغوية، والموضوعية، والموسيقية، والنفسية، والعضوية.
يقول الجرجاني: «الشاعر الحاذق يجتهد في تحسين الاستهلال، والتخلص، وبعدهما الخاتمة»(24)
إن علينا - لكي نرشد مسار النقد - أن نفرّق بين (الثابت والمتغيّر)، وأن نعيد قراءة المعارك الأدبيّة بوعي، ومعرفة.
لقد ثارت معارك فكريّة تصدّرها [الرافعي، وطه حسين]، عُرفت بالمعركة بين القديم والجديد، تلتها معركة [الديوان، ومدرسة الإحياء]، عُرفت بالمعركة بين التقليد والتجديد، وواكبتها المعركة بين الشعر الحرّ والشعر العموديّ، عرفت بمعركة التقدّميّة، والرجعيّة، والأصالة، والمعاصرة.
إنّ على [النقد الحديث] أن يراعي ثوابت الفنّ مثلما يراعي ثوابت الدّين. فلكلّ حضارة ثوابتها الدّينيّة، واللغويّة، والفنّيّة، والأخلاقيّة.. وإذ لا بدّ من المرجعيّة النّصّيّة في الدّين فإنّه لا بدّ من المرجعيّة الأدبيّة المتمثلة باللغة، والفنّ، والإيقاع والبلاغيّة، ومن ثم فإنه لا يمكن أن يكون أدباً بدون لغة عربيّة فصيحة ملتزمة بالنحو، والصّرف، والتركيب، وجماليّة الأسلوب.
لقد تنازع المفكّرون هويّة العقل، وتعقب الفلاسفة والمفكرون كلّ الرؤى، وموضعوا العقل بحيث أتوه من أقطاره. لقد أشاد [زكي نجيب محمود] بالعقلانيّة الغربيّة وفق رؤية علميّة، فيما أشاد [سيد قطب] بالعقليّة الإسلاميّة وفق رؤية حزبيّة.
وأشاد [أدونيس] بالعقليّة الإلحاديّة مأخوذاً بباطنيّة التصوّف، وأرّخ [الجابريّ] للعقل العربيّ بأسلوب نقديّ، أثار عليه طائفة من النقاد.
لقد تذبذب المشهد النقديّ بين عقلانيات متعدّدة الانتماء، والمنطق، والاتباع، والابتداع، والقديم، والمحدث، والتقليد، والتجديد، والثابت، والمتغير في اللغة، والمصطلح، والتصور في الفكر العربي، والتصور الإسلامي وخطاب الحداثة، وفلسفة التأويل. حتى لقد نشطت الآراء داخل محاور الثبات، فضلاً عن محاور التغيير.
(النقد الحديث) لم يستوعب نظرية الشعر ومفهومه، لا في القديم، ولا في الحديث.
فهل الشعر منظوم وحسب، يشكله الوزن والقافية، أم أن هناك شعرية تتجلى في الكلمة، والجملة، والبناء، لا يدركها إلا العارفون بمضايق الشعر.
فما هي (نظرية الشعر)؟ وما هو مفهومه في النقد العربي المستقل، والنقد العربي المستغرب؟ وأي الرؤيتين أحق بالبقاء؟ تعريف الشعر مأزق في حد ذاته.
لقد تداول النقد الشعر المرسل والشعر المنثور وقصيدة النثر المسماة بـ (شعرية اللغة وموسيقى الأفكار).
والنقد حين تتيه بوصلته يدخل أنفاق التيه، ثم لا تكون له استقلالية، ولا خصوصية.
لقد ارتبكت رؤية النقد حول الشعر؛ فتذبذب النقاد بين الإيحاء، والمباشرة، والوضوح، والغموض، والجزالة، والبساطة، والصنعة والتكلف، والتشاكل، والتباين.
والنقاد القدامى حين بدا التيه عندهم في تصور الشعر وضعوا (نظرية العمودية) المتمثلة بــ:
-شرق المعنى وصحته
-جزالة اللفظ واستقامته
-الإصابة في الوصف
-المقاربة في التشبيه
-التحام أجزاء النظم والتئامها مع تخير لذيذ الوزن
-مناسبة المستعار منه للمستعار له.
-مشاكلة اللفظ للمعنى مع شدة اقتضائهما للقافية حتى لا منافرة بينهما كما في الوساطة للجرجاني (ص 48).
وفي زمن التيه ذرت قرون كثيرة، تمثلت بمصطلح جنائزي، أو بَعْدِي. فعرفنا الأحكام الجنائزية كـ (موت المؤلف والناقد) وحتى (موت النص)، وقد يأتي فيما بعد موت المتلقي.
أما مصطلح (المابعديات) فحدث ولا حرج:
-ما بعد الحداثة.
-ما بعد الفلسفة.
-ما بعد البنيوية.
وبعد النقد اللغوي الذي هيمن على المشاهد بكل تنوعاته، واستبعد الموضوع والإمتاع والحسّ والذوق، وحول النصّ إلى جسد متخشب، تعمل فيه المشارط، وإلى أرض يباب تعمل فيها المجسات والمسابير، وإلى بناء حجري تقوضه وتهدمه الأزاميل، وإلى نسيج تشرحه الأدوات، وإلى آلة مترابطة تفككها المفاتيح ذرّ قرن (النقد الثقافي) ليخلص النص من دوامة المادة القائمة على البناء، والتفكيك، معترفاً بأنه نشاط، وليس مجالاً معرفياً قائماً بذاته. ونقاده يطبقون المفاهيم على سائر الفنون، والثقافات الشعبية؛ بل الحياة اليومية.
فـ(النقد الثقافي) مفتوح على كل الاحتمالات وكل التصورات؛ بل إنه يتسع لكل النظريات، فضلاً عن التفكير الفلسفي مستوعباً علم العلامات والتحليل النفسي، والنظرية الماركسية، والاجتماعية، و(الإنثروبولوجية).(25)
إنه - بحق - يمثل فوضى الحواس، والمشاعر، ويميت الذوائق، ويلغي المتعة، والجمال. ولاندفاعه غير المحسوب طرحت مقولة (موت النقد) بمفهومه الشائع.
وما قيل عن الشعر يقال عن (النثر). وللنثر مكانته المتميزة في النقد التراثي. لقد فتح (القرآن الكريم) شهية الأدباء والنقاد، وعالجوه كظاهرة نثرية، وما هو كذلك، فالكلام في نظر (الخطَّابي):
- شعر.
- ونثر.
- وقرآن.
وهي الرؤية التي أخذ بها الدكتور طه حسين، وأشاد بها.
فالقرآن في نظر (الخطَّابي) صاحب الرسالة في إعجاز القرآن نمط آخر ليس هو بشعر، ولا بنثر. وذلك مكمن إعجازه البياني.
هذه الخاصية التي غفل عنها الكثيرون، وقررها النقد التراثي، دفعت عدداً من الأدباء والنقاد إلى التأليف فيها، مثل: (أبي عبيدة) في مجاز القرآن، و(الفراء) في معاني القرآن، و(ابن قتيبة) في تأويل مشكل القرآن، و(الرماني والباقلاني والخطابي في إعجاز القرآن). وكل هؤلاء معدودون من النقاد القدامى الذين أسسوا شذرات للنظريات النقدية السردية.
وفي غير المجال القرآني نجد أن هناك لمحات ذكية وواعية نجدها في (صحيفة بشر بن المعتمر)، وفي (البيان والتبيين للجاحظ)، وفي (الرسالة العذراء لابن المدبر)، وفي (أدب الكاتب لابن قتيبة)، و(أدب الكتاب للصولي)، و(البرهان في وجوه البيان لابن وهب)، وفي (استدراكي) ابن الخشاب، وابن بري، و(المثل السائر لأثير الدين الجزري)، وبخاصة المقدمة التي اشتملت على عشرة فصول.
وإلى جانب التعقيد والمنهجة تأتي كتب الشروح والتفاسير كــ(الكامل) للمبرد، و(الإيضاح)، و(الاقتضاب)، و(شروح المقامات)، و(نهج البلاغة).
وفنون النثر تمثلت بـ(الخطابة) و(الرسائل) و(المقامات) و(قصص الأمثال) و(أيام العرب). أما تفاسير القرآن فمجالاته رحبة، لا يتسع لها المقام.
لقد تقصى (زكي مبارك) النثر الفني في القرن الرابع في رسالة علمية موسعة، أثبت من خلالها تفوق التراث في النثر مثل تفوقه في الشعر؛ إذ تقصى فنون النثر، ومصادر نقد التراث.
لقد اهتم النقاد العرب بالنثر وفنونه اهتمامهم بالشعر، وإن لم يرق إلى مستوى نقد الشعر؛ فالعرب نفلت الشعر من حيث الشرف والبلاغة والشكل والمحتوى.
وكثير من النقاد جمع بين الشعر والنثر؛ فدرسوا اللفظ، والمعنى، والطبع، والصنعة. وتبدت في دراسة النثر تطورات في المفاهيم النقدية.
ونقد النثر أثيرت حوله تساؤلات كثيرة، من أهمها أنه مستمد من النقد اليوناني. وقد تصدى لهذه الفرية الأستاذ (نبيل خالد رباح أبو علي) في رسالته (نقد النثر في تراث العرب النقدي). (26)
لقد غمرت النظريات الحديثة الغربية مشاهدنا، ونحّت النظريات والشذرات العربية. غمرتنا البنيوية وما بعدها من (شتراوس) إلى (دريدا). وشغلتنا تجلياتها في الفكر والأدب واللغة، فهي لم تكن خالصة للفن.
وطغت نظرية المنهج الشكلي كما هو عند الشكلانيين الروس حول مفهوم البناء، والواقعية ونظرية النثر وبناء القصة والرواية.
واختلطت عندنا مفاهيم السيميائيات، والعلامات، والعلاقات، وقضايا الشعرية كما هي عند (ياكبسون)، ونظرية (تشومسكي) اللغوية، واللغة بين الغريزة والكسب، ولسانيات النص على مختلف مستوياته الدلالية والمعجمية، والتداولية، والبلاغية.
ولم نستطع التعرف على المستجدات في اللغة أمام طوفان المستجدات المنهجية. كما لم نفرق بين علم اللغة في الموروث اللغوي، وعلم اللغة عند الغرب، ولم نحسن ضبط التطور الدلالي، وبخاصة عندما كان مركز الكون النقدي بيد المتلقي.
إن هناك أصولاً تراثية في علم اللغة لا يحسن الجهل بها في ظل طوفان المناهج الحديثة.
إن للغة مفهوماً ومنهجاً، غفل عنه النقد. فسلم بأن المنهج اللغوي صورة مشوهة للدرس اللغوي عند اليونان والرومان، وأنه في العصر الحديث نسخة ناقصة للنظريات اللغوية المعاصرة. بحيث سلمنا لــ (سوسير) ومدارس (كوبنهاجن) و(براغ)، وأخيراً لـ (تشومسكي). وفات نقادنا ما قعده الأوائل بكل براعة ودقة للمستويات كافة:
- الصوتية.
- الصرفية.
- التركيبية.
- الدلالية.
- الزمكانية.
- إننا أمام طوفان من النظريات المتلاحقة، والمتصادمة، والمضطربة، وغير المستقرة، وما لم يكن الناقد العربي واعياً لهذا الاضطراب أضاع نفسه وقبيله.
- إننا بحاجة إلى قراءة جادة للواقع النقدي، نستطيع بواسطتها أن نعيد لنقدنا التراثي والمعاصر مكانه الطبيعي كشريك ند للمناهج النقدية الحديثة كافة.
- ولن يتأتى ذلك حتى تقوم أقسام اللغة العربية في جامعاتنا بالتأسيس لتشكيل حركة نقدية مكتملة الآلة، والمنهج، مستفيدة التراث النقدي، واللغوي؛ ليكون رديفاً لا بديلاً، وشريكاً لا تابعاً للحركة النقدية الحديثة.
... ... ...
الهوامش:
1- قراءة جديدة لتراثنا النقدي، مج2، ط1 1410هـ، النادي الأدبي بجدة. ص511
2- مستشرق إسباني وعضو في الأكاديمية الإسبانية، له كتاب عن (تاريخ الموسيقى في الجزيرة العربية)، وهو من المعنيين بالدراسات الأندلسية الإسلامية.
3- قراءة جديدة لتراثنا النقدي، مرجع سابق.
4- صلة الموشحات والأزجال بشعر التوباد، عبد الهادي زاهر.
5- قراءة جديدة لتراثنا النقدي، مرجع سابق.
6- البيان والتبيين للجاحظ.
7- راجع التفكير الصوتي عند الخليل، حلمي خليل، ط1، دار المعرفة الجامعية، 1988م. وقد أحال المؤلف إلى تسعة مراجع أجنبية اهتمت بنظرية الخليل الصوتية. وكل الذين درسوا الصوتيات أحالوا إلى إضافات الخليل، ومنهم:
- أحمد مختار عمر، دراسة الصوت اللغوي.
- ميرغني جعفر، جرس اللسان العربي.
- عبده داود، دراسات في علم الأصوات العربية.
- سعد مصلوح، دراسة السمع والكلام.
8- ملتقى النقد الأدبي الثاني، الدورة الثانية الخطاب النقدي المعاصر في المملكة، ط1، 1431هــ، نادي الرياض الأدبي، بحثي ص21.
9- ملتقى النقد الأدبي الدورة الرابعة، الشعر السعودي في الخطاب النقدي العربي، ط1434هــ، نادي الرياض الأدبي.
10- في تاريخ النقد والمذاهب الأدبية العصر الجاهلي والقرن الأول الإسلامي، محمد طه الحاجري، ط1982م، دار النهضة العربية.
11- طبقات فحول الشعراء، ص23، دار المعارف، 1953م.
12- المصدر نفسه ص113.
13- مصطلح أمية الرسول، والأمة الأمية، ومصطلح الجاهلية الأولى لها دلالات لا تقف عند حد الدلالة.