د. محمد بن يحيى الفال
قبل أكثر من أربعة عشر عامًا وتحديدًا في أواخر شهر ذي الحجة 1425هـ الموافق للأسبوع الأول لشهر فبراير 2005 شهدت الرياض مؤتمرًا عالميًا لمكافحة الإرهاب وشاركت في فعالياته أكثر من 51 دولة من شتي بقاع العالم وصدر عنه إعلان الرياض بتوصيات عديدة وغاية في الأهمية ولعل من أهمها النظرة الإستراتيجية البعيدة الأفق والثاقبة على حتمية التعاون الدولي لمواجهة ظاهرة الإرهاب والقضاء عليها واستئصالها من جذورها قبل استفحالها وانتشارها وجعل مهمة ذلك أمرًا ملحًا يتطلب تعاونًا دوليًا من أجل الحفاظ على السلم والأمن العالميين. وعليه فلقد أكد إعلان الرياض وبنظرة ثاقبة عارفة بخطورة ظاهرة الإرهاب التي اكتوت من شرورها المملكة بتفجيرات عدة أزهقت الكثير من الأنفس البريئة ودقت ناقوس خطر الإرهاب على المجتمعات بتعريضه حياة الأبرياء لجريمة هذه الآفة النكراء، وعليه فقد أكد إعلان الرياض القول «إن أي جهد دولي سيكون قاصرًا على التصدي الفعال لظاهرة الإرهاب إذا افتقد العمل الجماعي والمنظور الشامل».
وقبل الخوض في الجريمة المروعة وغير المسبوقة بمدينة كرايست شيرش في نيوزيلندا بكون المجرم الذي تحول لوحش تخلي عن كل قيم الإِنسانية ووثق وبث على شبكة المعلومات الدولية كل التفاصيل الدقيقة لجريمته الوحشية فلا بد ومن نافلة القول التطرق إلى سرد بعض الحوادث الإرهابية التي استرعت وشدت انتباه الرأي العام الدولي لفظاعاتها ووحشية مرتكبيها بغض النظر عن الخلفيات الأثنية العرقية أو الإيدلوجية لمرتكبيها، وهو الأمر الذي أكد عليه إعلان الرياض في عديد من بنوده، فهذا هو تيموثي مكافي الرقيب الأمريكي الذي شارك في حرب الخليج الثانية وحصل على ميدالية الشجاعة البرونزية يقوم بتفخيخ وتفجير مباني الحكومة الفيدرالية في أبريل 1995 بمدينة أوكلاهوما الأمريكية، لتسفر جريمته الإرهابية عن مقتل 168 بريئًا منهم الكثير من الأطفال الذين كانوا موجودين في روضة الأطفال الملحقة بالمباني الفيدرالية، وفي النرويج قام الإرهابي أندرس بريفيك يفتح نيران رشاشه في يوليو ليقتل 69 بريئًا جُلهم من الشباب والمراهقين المشاركين في فعاليات مخيم للشباب في جزيرة أوتويا النرويجية، وفي العاصمة الإسبانية مدريد قامت ثلة من الإرهابيين بتفخيخ وتفجير خطوط السكك الحديدية عام 2004، لتسفر جريمتهم النكراء عن مقتل 191 من ركاب القطارات الأبرياء، ولم يكد عامًا يمضي حتى ضرب الإرهاب شبكة مواصلات الأنفاق في العاصمة البريطانية لندن وذلك في يوليو 2005 ولتسفر العملية الإرهابية عن قتل 50 من الضحايا الأبرياء. لم تكن الحوادث الإرهابية المذكورة أنفًا سوى غيض من فيض من الجرائم في حق الأبرياء العزل وتلتها مذبحة رأس السنة لعام 2017 بمدينة إسطنبول التركية وراح ضحيتها 39 من الضحايا الأبرياء ـ وشملت جرائم الإرهاب في السنوات الماضية جرائم دهس قام بها إرهابيون في حق الأبرياء في عديد من العواصم والمدن الأوروبية ولعل أبشعها جريمة الدهس التي كانت مدينة نيس الفرنسية مسرحًا لها في شهر يوليو 2016 وأسفرت عن مقتل 85 نفسًا بريئة وعشرات الجرحى.
وبالعودة إلى إعلان الرياض الصادر عن المؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب وبإسقاط التوصيات التي صدرت عنه نلاحظ أن حكومة نيوزيلندا وبعد أكثر من أربعة عشر عامًا على الإعلان تعاملت مع الحادث الإجرامي غير المسبوق بمدينة كرايست شريش بشفافية غاية في الإيجابية تعد مثالاً عمليًا يحتذي به ومطابقًا تمامًا للتوصيات التي صدرت عن إعلان الرياض ونرى ذلك في ثلاث محاو رئيسة، في المحور الأول الذي جاء في إعلان الرياض والذي دعا للرفض التام لنشر قيم العنف والكراهية، فهذه السيدة جاسيندا أردرن ترفض حتى النطق باسم مرتكب مجزرة كرايست شيرش وتصرح والأسى والحزن يعتصر مُحياها على الضحايا الأبرياء الذي سقطوا وهم بمكان عبادة» بكل تأكيد الحادثة أصبحت جزءًا من تاريخنا، إنها أكثر الأيام سوادًا. وفي المحور الثاني الخاص بأهمية تشجيع التسامح والتعايش بين مختلف الأديان، وعليه فلم تكتف رئيسة الوزراء بتصريحها الذي وقع على أهالي الضحايا والرأي العام العالمي بمنزلة بلسم في وقت صعب لم تشهد له نيوزيلندا المسالمة مثيلاً في تاريخها المعاصر، حيث وجهت بأن تُفتتح جلسات البرلمان النيوزيليندي بتلاوة من القرآن الكريم وهو الأمر الذي تم بالفعل، وفي المحور الثالث والمتعلق بأهمية دور وسائل الإعلام في تعرية خطاب الكراهية والعنف وهو إحدى توصيات إعلان الرياض فلقد أدت وسائل الإعلام دورها بكل إيجابية كانت نتيجتها أن نيوزيلندا ورأيها العام بمجمله تضامن من ضحايا المذبحة وذويهم بشكل خفف عنهم هول الصدمة التي لم تصبهم وحدهم، بل أصابت الرأي العام العالمي بالذهول لبشاعة ودناءة الطريقة التي ارتكبت بها.
جرائم الإرهاب التي شهدها عالمنا أوضحت له بأن المملكة وقيادتها كانت السباقة من تحذير المجتمع الدولي من هذه الآفة الخطيرة ولعل مساهماتها في مكافحته لم تقم بجزء يسير من مثلها أي من دول العالم، والحقائق تؤكد ذلك فمن مؤتمر الرياض العالمي لمكافحة الإرهاب 2005 وصدور إعلان الرياض عنه إلى المؤتمر الدولي المعنى بتعاون الأمم المتحدة مع مراكز مكافحة الإرهاب 2013، مرورًا بدورها المحوري في إنشاء مركز الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب الذي أسهمت في إنشائه بأكثر من 100 مليون دولار إضافة إلى دعم مستمر لنشاطاته وكذلك تنظيم العشرات من المؤتمرات واللقاءات في داخل المملكة وخارجها والصرف عليها بسخاء لتعريف المجتمع الدولي بأهمية تضامن المجتمع الدولي في مواجهة سرطان الإرهاب. قد أثبتت مجزرة كرايست شيرش بأن الفكر الضال والمشوه هو النبع الذي ينهل منه مرتكبو الفظائع الهمجية ضد القيم الإِنسانية، وكان نتيجة لذلك التي فطن لها صاحب السمو الملكي ولي العهد ووزير الدفاع بأن وجه سموه بإنشاء مركز دولي تحت مظلة وزارة الدفاع باسم «مركز الحرب الفكرية» الذي يرأس سموه مجلس أمنائه وانيطت بالمركز مهمة مراقبة الأفكار الضالة الداعية للعنف والكراهية ضد الآخر المختلف. آن الأوان للعالم أن يتحد ضد آفة الإرهاب بإعلان دولي يصدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة تكون مرجعيته النظرية جهود المملكة في مكافحته بدءًا من إعلان الرياض 2005 وانتهاء بالجهود الجبارة التي يبذلها مركز الحرب الفكرية لمواجهة الأفكار الداعية للإرهاب والتطرف والكراهية، وتكون مرجعيته العملية تجربة نيوزيلندا وكيف تعاملت مع تداعيات مجزرة كرايست شيرش وكونها طبقت فعليًا وعمليًا التوصيات التي صدرت عن إعلان الرياض 2005 مما جعل أهداف السفاح ومن يقف من ورائه تذهب أدراج الرياح.
أخيرًا، فقد فرح الجميع وهون عليهم هول ما حدث ما وجهت به قيادة المملكة المتمثلة بخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز بإقامة صلاة الغائب على أرواح شهداء مجزرة كرايست شيرش بعد صلاة الجمعة في كل من الحرم المكي والمسجد النبوي، توجيه لم يكن مستغربًا من المملكة وقيادتها التي تضع على رأس أولوياتها الاهتمام بأمور المسلمين والدفاع عن قضاياهم أين ما كانوا وتقدم الغالي والنفيس في سبيل ذلك بلا كلل أو ملل.