د.فوزية أبو خالد
العزيزة السيدة جاكيندا آرديرن رئيسة وزراء نيوزلاند
السلام عليكم
هذه الرسالة تصلك من أستاذة جامعية وكاتبة سعودية عربية مسلمة أم وشاعرة باسم كل الأمهات عبر القارات؛ أي باسم الضمير وباسم الشعر وباسم كل قيم الرحمة والجمال في هذا العالم رغم الحروب والموات
وأنا أكتب هذه الرسالة لك شخصياً كمواطنة نيوزلاندية وكرئيسة وزراء نيوزلاندا وكإنسانة صاحبة رسالة سامية وموقف جريء.
أكتب لك هذه الرسالة باسم الأطفال الذين تيتموا في حادث المسجدين الإرهابي الفظيع وباسم الأطفال في كل مكان الذين كتبتِ لهم بيدك في كتاب المستقبل بشجاعة جديدة على التاريخ الغربي والعالمي السياسي - رسالة حب وسلام.
وفي هذه الرسالة أكتب لك رداً على رسالتك الغالية للحب والسلام لأضيء ثلاث نقاط:
أولاً: لقد قمت بإدارتك الإنسانية لهذه الأزمة الفاجعة المريرة لأول مرة في التاريخ السياسي بأنسنة السياسة وتحويلها من آلية ميكانيكية صماء إلى عقل نقدي وضمير حي حالم وفعَّال في الوقت نفسه.
ثانياً: لقد قمت بتأنيث السياسة لأول مرة في تاريخ رئاسات الوزراء في العصر الغربي الحديث بإدخال أهم عناصر الأنوثة على المشهد السياسي وهو عنصر الحكمة والدفء الأمومي وعنصر الحدس والتحمّل وعنصر الصبر على المكاره بالمكارم والبذل والعطاء وعنصر المشاركة في الدمع والفرح والأحزان بديلاً لسياسة التهديد بالعصاة والترغيب بالجزرة. وهذه عناصر كانت معطَّلة عبر تاريخ من سياسة الاستعلاء الذكوري الطويل.
تركت المكتب ونزلتِ الميدان، صحيح أن الكارثة كبيرة مزلزلة ولا تحتمل عزلة المكاتب إلا أنك لم تمري مرور مجاملة، بل عشتِ بين المجروحين بجرح مفتوح من خوف حقيقي على وحدة نيوزيلاندا وسلمها الأهلي.
تحدثتِ لغة عادلة غير اللغات السياسية المراوغة المستهلكة عادة. هذه كلمة شفيفة كتبت لتحيا في الوجدان الإنساني لا لتطوى مع طي صحف الأمس.
(السلام عليكم كلنا واحد أنتم أنا كلنا الشهداء.. كلنا نيوزلاند وكلنا ضحايا مرشحين للعنف إن لم نقف معاً بوجه الإرهاب. لا أحد منا يمكن أن يواجه العنف ولا التطرف بمفرده. الحل يكمن في مفهوم بسيط، لا علاقة له بالحدود الداخلية ولا يستند على الأعراق أو قواعد السلطة, بل هو يكمن في الإيمان بإنسانيتنا....
العالم يغرق في حلقة مفرغة من التطرف وهذا الأمر لا بد أن ينتهي)....(خلال الأسبوعين الماضيين جرى الحديث عن قصص من بطولات من واجهوا الهجوم الإرهابي البشع وعن بطولات من الشجاعة ورباطة الجأش في مواجهة آثاره المريعة. وهذه القصص تشكِّل الآن جزءاً من ذاكرتنا الجماعية, أولئك ضحايا المجزرة الدموية سيبقونا معنا إلى الأبد نحن هم سنظل نذكر دموع الشعب وسنعمل على تقوية العزيمة الجديدة التي تم تشكيلها لمقاومة عودة المجزرة وللقضاء على الإرهاب بكل أشكاله ومن جذوره).
ثالثاً: وفي رأيي أن موقفك هذا كما سجّل في كتاب المستقبل رسالة حب وسلام فإنه يسجّل موقفاً نقدياً من السياسات التي أنتجت خطابات وسلوك الإرهاب عالمياً.
فليس صدفة أن يتوسل القاتل مرتكب المجزرة الجماعية المريعة أحداثاً تاريخية موغلة في القدم ليبرر فعله الوحشي وليوغر الصدور ويشب نار الكراهية وعقيدة الانتقام العنصري على الهوية الدينية أو الإثنية أو سواها من أشكال التنوّع البشري التي تكفلها حقوق الإنسان. ولعل كتاب لا سكوت بعد اليوم لبول فندلي الذي خرج إلى العالم بتوقيت ذكي على أعتاب الألفية الثالثة ليدق الجرس في العالم الغربي عن مخاطر الثقاقة العنصرية الثاوية في المناهج الدراسية وفي الإعلام تجاه «الأغيار» وإن كانوا مواطنين منتجين ويتمتعون بحقوق على قدم المساواة قانونياً على الأقل، بالإضافة لتنبيهه المبكر عن دور الطريقة التي يدار بها الإرهاب عالمياً اليوم لتكرار الإرهاب. ليصل إلى قول إن تلك عينة من العناصر التي يجب إعادة النظر النقدي فيها جذرياً إعلامياً وسياسياً وتربوياً إن كان من إرادة سياسية جادة لقطع الطريق على عودة النازية والفاشية بشكل فردي أو جماعي. ومن هنا في رأيي تأتي ضرورة أن يُؤخذ موقف نيوزلاندا الشجاع الموقف السياسي وموقف الشعب محمل الجد كمقياس لاتخاذ موقف نقدي من ثقافة الكراهية والإرهاب. وليس مقياساً أقسى وأكثر موضوعية من مقياس الاعتراف بوجود مشكلة جذرية ويجري السعي لتصحيحها كما بادرتِ بمساندة شعب نيوزلاند العظيم.
إنني إذا أحييك أقترح لك ولموقفك النقدي الجريء العادل جائزة نوبل للسلام وكل الجوائز الشريفة عالمياً وعربياً. وأقترح أيضاً يوماً خاصاً بالأمم المتحدة يُسمى يوم (جاكندا مواقف النقد السياسي الشجاع) أو(موقف كلنا واحد في النقد السياسي الشجاع لحماية السلم الأهلي والعالمي).
فنحن - وأعني العالم أجمع- نحتاج للنقد السياسي الذاتي والموضوعي أحياناً ولكننا نحتاج شجاعة النقد بحد ذاتها في كل حين.
وإذا كانت رسالة الحب والسلام التي كتبتها بكل لغات العالم قد انتشرت عبر كل الشاشات والوسائط الإلكترونية لتقول لا لمعتاد سياسة الاستشراق بلوم الضحية ولا لمجرد مواقف الشجب الرتيبة التي لا تعاقب معتدياً ولا تنصف معتدى عليه، فإن رسالة الحب والسلام هذه كُتبت لتبقى قدوة على الحاجة لأنسنة السياسة ولشجاعة النقد.
* بعض العنوان مقتبس من الشيخ حمد الجاسر - رحمه الله وأكرمه بجواره العظيم- في ترحيبه بالمناضل السلمي الهندي الكبير مهاتما غاندي.