د. يوسف بن طراد السعدون
الوطن ملحمة عشق بين الإنسان والأرض التي تحتضنه، كلماتها عطاء ووفاء. وزانت الأمم، على مدى التاريخ، إكليل فخرها بجوهرة حب الوطن وفداء كل ذرة من ترابه، واحتقرت أي فرد يتنكر له ويبيع الذمم والولاء لخدمة الأعداء الذين يستهدفون إثارة الفتن وعدم الاستقرار. وتباهت الشعوب بهويتها الوطنية، التي لا تعدها مجرد إشعار إثبات انتماء، بل مثلت لها موروث لمجموعة قيم دينية ولغوية وثقافية وجغرافية وسياسية واقتصادية واجتماعية، تميزت بها ووثقت وحدتها ضمن نسيج وطني متناسق ومتكامل، ليستند عليها البناء.
وعالمنا اليوم تتجاذبه نزاعات وأطماع دولية متعددة تلاشت بسببها لغات وموارد وعادات وتقاليد بل حتى دول.. وتتلاطم فيه أمواج مختلفة من التيارات والأفكار العقائدية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية، وكل منها يدعي المصداقية والبراءة. وساهمت وسائل الاتصال والتقنية الحديثة في سرعة تداولها وانتشارها. وإذا لم يكن المجتمع، وخصوصاً الأطفال والشباب، محصناً بالدرجة الكافية من الوعي لتمييز بين الصالح والطالح، فتلك إذا الفرصة التي ينشدها الحاقدون والطامعون. والحصانة لمواجهة هذه التحديات، تستمد من إدراك الهوية الوطنية والاعتزاز بها، مع الرشاد إلى أن هذه الهوية ليست بأي حال من الأحوال جامدة لا تقبل التطوير والتهذيب بما لا يخل بمكونها الأساسي.
لذلك ليس مستغرباً قناعة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود الراسخة بأهمية الحفاظ على الهوية الوطنية السعودية، والتي تجلت بقوله: (إن الحفاظ على هويتنا العربية والإسلامية وتراثنا وثقافتنا وأصالتنا من أوجب واجباتنا، ومكانة كل أمة تقاس بمقدار اعتزازها بقيمها وهويتها).. وأكدها ولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، حيث قال: إن (ثروتنا الأولى التي لا تعادلها ثروة مهما بلغت: شعب طموح، معظمه من الشباب، هو فخر بلادنا وضمان مستقبلها -بعون الله-، ولا ننسى أنه بسواعد أبنائها قامت هذه الدولة في ظروف بالغة الصعوبة، عندما وحدها الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -طيب الله ثراه-.. وبسواعد أبنائه.... رؤيتنا لبلادنا التي نريدها، دولة قوية مزدهرة تتسع للجميع، دستورها الإسلام ومنهجها الوسطية، تتقبل الآخر).
ولم تغفل القيادة السعودية، في سعيها الدؤوب وطموحاتها الخيرة للتنمية، الاهتمام بتعزيز الهوية الوطنية. فالمحور الأول لرؤية المملكة 2030، يهدف لبناء مجتمع حيوي قيمه راسخة وبيئته عامرة وبنيانه متين، يعتز أفراده بالهوية الوطنية ويحيون وفق المبادئ الإسلامية القائمة على قيم الوسطية والتسامح. ودعت الرؤية إلى العمل على غرس المبادئ والقيم الوطنية وتعزيز الانتماء الوطني، والمحافظة على تراث المملكة الإسلامي والعربي والوطني والتعريف به، والعناية باللغة العربية.
وفي سبيل ذلك، أطلقت وزارة الثقافة مساء الأربعاء 20 رجب 1440، إستراتيجيتها التي تضمنت 27 مبادرة بمختلف القطاعات الثقافية والفنية والتراثية بالمملكة. وهذه المبادرات تشكل دعامة لتحقيق المحور الأول للرؤية، خصوصاً فيما يتعلق ببرنامج تعزيز الشخصية الوطنية الذي اشتمل على تنمية وتعزيز الهوية الوطنية للأفراد وإرسائها على القيم الإسلامية والوطنية وتعزيز الخصائص الشخصية والنفسية التي من شأنها قيادة وتحفيز الأفراد نحو النجاح والتفاؤل، وتكوين جيل متسق وفاعل مع توجه المملكة سياسياً واقتصادياً وقيمياً ووقايته من المهددات الدينية والأمنية والاجتماعية والثقافية والإعلامية.
ولضمان نجاح الإستراتيجية الثقافية بتحقيق الأهداف المنشودة منها، من المهم أن تتناسق معها إستراتيجيات التعليم والإعلام، والتي تعد نشاطاتهما حلقات أساسية في منظومة العمل المؤدي إلى ترسيخ الاعتزاز بالهوية الوطنية. مع ضرورة أن يقود وينفذ برامج الإستراتيجيات في هذه القطاعات (الثقافة، الإعلام والتعليم) نخبة من أبناء الوطن الذين يتسمون بدرجة عالية من الدراية والاتزان بدون تطرف أو انحلال، ويعتزون بالهوية الوطنية السعودية، ويمنحون الأولوية والريادة في المنابر الثقافية والإعلامية والتعليمية.
فهذا النهج العملي هو ما شدد عليه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز خلال افتتاحه لأعمال السنة الثانية من الدورة السابعة لمجلس الشورى، بقوله (تسعى بلادكم إلى تطوير حاضرها وبناء مستقبلها والمضي قدماً على طريق التنمية والتحديث والتطوير المستمر بما لا يتعارض مع ثوابتها متمسكين بالوسطية سبيلاً والاعتدال نهجاً كما أمرنا الله بذلك، معتزين بقيمنا وثوابتنا ورسالتنا للجميع أنه لا مكان بيننا لمتطرف يرى الاعتدال انحلالاً ويستغل عقيدتنا السمحة لتحقيق أهدافه، ولا مكان لمنحل يرى في حربنا على التطرف وسيلة لنشر الانحلال واستغلال يسر الدين لتحقيق أهدافه، وسنحاسب كل من يتجاوز ذلك، فنحن -إن شاء الله- حماة الدين وقد شرفنا الله بخدمة الإسلام والمسلمين، ونسأله سبحانه السداد والتوفيق).
ختاماً أشيد في مبادرة وزارة الثقافة بتأسيس مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية، الذي آمل أن يكون صرحاً للدفاع عنها بآليات فاعلة تضمن حمايتها. فلغتنا العربية مكون أساسي لهويتنا وساهمت بحماية تاريخنا وحضارتنا وثقافتنا من الاندثار، وهي تواجه حالياً تحديات كبيرة جراء منافسة اللغات الأجنبية لها بكافة المجالات. فقد أصبح الكثير من أطفالنا وشبابنا يجيدون اللغات الأجنبية أكثر من إجادتهم للغتهم الأم، بسبب تساهل الأسرة والمجتمع وانتشار المدارس والمناهج الأجنبية وتعلق النشء بالأفلام الكرتونية والألعاب الإلكترونية الأجنبية. وتسيدت اللغة الإنجليزية منصات العديد من المؤتمرات والندوات التي تعقد لدينا، وبمخالفة صريحة لقرار مجلس الوزراء رقم (427) في 8 شعبان 1439، القاضي باعتماد اللغة العربية لغة رسمية بالمؤتمر أو الندوة، وعلى المشاركين المتحدثين في اللغة العربية التقيد باستخدامها. وفي هذا المقام، لنتمعن بقول شاعر النيل حافظ إبراهيم:
أنا البحر في أحشائه الدر كامن
فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي
فيا وَيحَكُم أبلى وتَبلى مَحاسِني
ومنْكمْ وإنْ عَزَّ الدّواءُ أساتِي
فلا تَكِلُوني للزّمانِ فإنّني
أخافُ عليكم أن تَحينَ وَفاتي
أرى لرِجالِ الغَربِ عِزّاً ومَنعَةً
وكم عَزَّ أقوامٌ بعِزِّ لُغاتِ
أتَوْا أهلَهُم بالمُعجِزاتِ تَفَنُّناً
فيا ليتَكُمْ تأتونَ بالكلِمَاتِ
أيُطرِبُكُم من جانِبِ الغَربِ ناعِبٌ
يُنادي بِوَأدي في رَبيعِ حَياتي
ولو تَزْجُرونَ الطَّيرَ يوماً عَلِمتُمُ
بما تحتَه مِنْ عَثْرَة ٍ وشَتاتِ
سقَى اللهُ في بَطْنِ الجزِيرة ِ أَعْظُماً
يَعِزُّ عليها أن تلينَ قَناتِي