محمد سليمان العنقري
الاعتراف بالأزمات هو أول الحلول، أما من ينكرونها فهم يهربون للأمام، ولن يطول بهم الوقت حتى يصطدموا بها، وتكون تكلفة الحلول باهظة.
فما يعيد الحديث عن الأزمات، وخصوصًا الاقتصادية والمالية، ليس ذكرى الأزمة المالية التي نشبت قبل نحو عشرة أعوام، بل ما تمرُّ به بعض الاقتصادات الناشئة، مثل تركيا التي تعد نموذجًا مثاليًّا للدول التي تنكر مشاكلها الاقتصادية.
فبالرغم من الأرقام التي استمرت تركيا بإعلانها عن نمو اقتصادها الجامح خلال السنوات الماضية إلا أن مؤشرات عديدة كانت تثير التساؤل حول حقيقة هذا النمو، وأهمها معدل البطالة الذي بقي يتراوح حول 10 % طيلة كل هذه السنوات رغم أن نمو الاقتصاد كان يسجل ما بين 7 و9 % لأكثر من عشرة أعوام؛ وهو ما يوضح أن هناك خللاً كبيرًا في قياس حقيقة النمو الذي تحقق طيلة كل هذه السنوات. ومنذ عام تقريبًا انهارت العملة التركية بأكثر من 50 %، ولكن المتتبع لسعر صرف الليرة مقابل الدولار يجد أن التراجع بقيمتها بلغ منذ العام 2006 م أكثر من 300 %؛ إذ كان كل دولار أمريكي يعادل 1.42 ليرة تركية، أما اليوم فسعر صرفه وصل إلى 5.50 ليرة لكل دولار، وهو انخفاض يعبِّر عن مشاكل عميقة واختلالات كبيرة في الاقتصاد التركي، لكن هذا الهروب للأمام طيلة كل هذه السنوات انتهى بدخول الاقتصاد التركي رسميًّا في ركود لأول مرة منذ عشرة أعوام؛ فقد أظهرت البيانات الرسمية انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2.4 % في الربع الأخير من العام الماضي 2018 م، وهو الانكماش الربعي الثاني على التوالي، وهو ما يمثل المقياس الدقيق لوصف ركود أي اقتصاد، والمقصود به انكماش لفصلين متتالين، وهو ما حدث بتركيا.
لقد حاولت الحكومة التركية منذ العام الماضي عندما استشعرت أن ساعة الحقيقة قد حانت لظهور الضعف في الاقتصاد أن تعلق الأسباب على شماعة المؤامرات الخارجية، لكن هذه الادعاءات كانت لكسب الوقت خلال فترة إطلاق حزمة إصلاحات اقتصادية، جاءت متأخرة، ولم تنعكس بأي آثار إيجابية لاستعادة زخم النمو، مثل رفع أسعار الفائدة الحاد؛ والدليل هو الركود الذي دخلته تركيا بعد ذلك رسميًّا. ولعل أهم مؤشر ينظر له حاليًا - برأي المجتمع التركي - بما تقوم به حكومة تركيا من إصلاحات هو الخسائر اللافتة في الانتخابات البلدية لحزب العدالة والتنمية الحاكم؛ فقد خسر كبرى المدن التي تعد معقلاً تاريخيًّا للحزب، ولم يخسر الانتخابات بها منذ عقود، وعلى رأس تلك المدن إسطنبول والعاصمة أنقرة؛ وهذا يشير إلى رأي المجتمع التركي في عمل الحكومة وبرامجها الاقتصادية، ويعد ذلك مؤشرًا سلبيًّا لتوقعات الانتخابات البرلمانية المقبلة.
مثال تركيا هو معبِّر عن نتائج إنكار الأزمات، والهروب للأمام بمعالجتها.. وقد سبقها بذلك الاتحاد الأوروبي في كل ما واجهه من أزمات خلال الأعوام العشرة الماضية عندما تأخر قليلاً بحلول مشكلة دولة ضمن منطقة اليورو، وما زالت تلك الدول تعاني ضعفًا في نموها الاقتصادي، وارتفاعًا في البطالة؛ فأساس مواجهة الأزمات الاعتراف بها، ثم فَهم أبعادها واستيعابها، ووضع الحلول المناسبة، وتنفيذها دون تأخير.. وإلا ستكون النتائج سلبية وسيئة جدًّا، وتكلفة حلها باهظة جدًّا.