د. جاسر الحربش
يوزع الرئيس الأمريكي ترامب المنح والإقطاعيات من الأراضي العربية على اليهود والكرد، وقد يحصل القبارصة واليونانيون على بعض الهدايا الأمريكية من الجغرافيا العربية، وقبل ذلك وهب سلفه جورج بوش الابن كامل العراق لإيران، ونطلب الله الستر على ما تبقى من الوطن العربي. أعتقد أن أهم الأولويات للتنسيق بين القيادات العربية لم يعد نقاش الخلافات بينها وإنما معالجة هذا الاسترخاص للأراضي العربية من قبل الأجانب، بما عليها من بشر ومساجد وكنائس ومقابر وآثار، وبما في جوفها من ثروات نفطية ومعدنية أثبتت الدراسات مؤخراً أنها هائلة.
الآن وأكثر من قبل أصبح التركيز على الهويات الجامعة بين الشعوب العربية وإعطائها التعريف المناسب وسهل الفهم، ما هي وما أهميتها للاحتماء المتبادل ضد الوحوش الكاسرة الغازية من الجوار الإيراني والتركي ومن وراء البحار والمحيطات.
ما هي الهويات الجامعة بين الشعوب وما أهميتها، هذا ما أحاول هنا تبسيط مفاهيمه. جواز سفرك وثيقة تعريف بك للآخرين عن الدائرة الوطنية الاجتماعية التي تعيش فيها (السعودية)، ولغتك تعريف بك للآخرين عن الدائرة الثانية أي الجغرافيا الحضارية التي تنتمي إليها (الوطن العربي)، وديانتك تعريف بك للآخرين عن الدائرة الثالثة، الدينية التعايشية (الإسلامية والمسيحية).
هل في هذا الكلام تنطع بافتراض أن الاكتفاء بالدائرة الأولى يغني عن الدائرتين الثانية والثالثة؟.
نقل عن الكاتب الروسي ألكساندر سولتشينتسين الذي كتب «أرخبيل قولاق»، ونال بها جائزة نوبل للأدب عن سنوات منفاه في سيبيريا: نفتني حكومتي الشيوعية لأنني لم أكن شيوعياً عن قناعة، وفي المنفى تخيلت أن الغرب يجسد فعلاً العالم الحر، وبعد ما نلت الحرية وتراخت قبضة الحكم الشيوعي في روسيا هاجرت إلى أمريكا، وهناك زالت كل أوهامي فعدت إلى روسيا مدركاً أنني في النهاية روسي القومية واللغة أرثودوكسي الديانة.
ما هي العناصر الجامعة للفعالية الصهيونية التي مكنتها من احتلال دولة عربية وأجزاء من دولة أخرى وجعل كل الدول العربية من حولها تشعر بعدم الأمان؟.
كيمياء القوة الصهيونية هي الاتفاق بين الأقليات اليهودية كافة في العالم على الجمع بين الهويات الثلاث، العصبية اليهودية واللغة العبرية والتدين التوراتي، حتى لو كان الواحد منهم لا يعرف موقع أقرب كنيس في الحي الذي يسكن فيه.
لذلك كانت غلطة مدمرة عندما حاول غلاة التنطع الديني في العالم العربي القفز بنا فوق الهويات الوطنية واللغوية إلى الهوية الدينية المذهبية والوسوسة لنا للاكتفاء بها. الآن يكرر نفس الغلطة المدمرة غلاة المدندنين على الهويات القطرية عندما يتبرؤون من القدس وفلسطين والجولان باعتبارها أصبحت (ديفاكتو) أراضي إسرائيلية، وأن المشكلة هي فقط بين سوريا وفلسطين وإسرائيل، وأن لا علاقة لنا بالأمر. لكن بالطبع وبمفهوم الهويات الاحتمائية لنا علاقة لا نستطيع الفكاك منها، لأن فلسطين والقدس والجولان أجزاء جغرافية ولغوية ودينية وبشرية من الدائرتين الانتمائيتين الثانية والثالثة، مثلما أن العراق وسوريا ليست أجزاء من إيران أو تركيا أو أمريكا، ومن يتنازل بسبب العجز المؤقت بالتخلي عن البعض من دوائره الانتمائية يغامر بفقدان كل الانتماءات الأخرى ويختفي في النهاية.