رمضان جريدي العنزي
الطريق طويل، والمدينة التي أبتغي بعيدة، والغيوم الكثيفة تجلب للنفس السعادة، في داخلي تقبع مناظر السهول والوديان والقمم، الأنجم والقمر والنهار المبتسم، وأنا الذي ما ضقت يوماَ بالسفر، أبداً ما ضقت بالسفر، وإذا ما حل بالنفس الوجع ألملم ثيابي وأرحل، لأبعد عن روحي تفاصيل السأم، ليصبح الصفاء في بعدها عندي عشم، أسافر ربما إلى مدارات بعيدة، أمضي أسابق نزف الغمام، وسرب الحمام، وذاك اليمام، وأشواقي تدفعني لتلك الديار التليدة، هو السفر عندي سر كامن مثل بحر كبير يرام، وأنا الذي لم أعرف هواية سواه، أبحث في سفري عن هواء عليل، عن هدير الماء أو خريره، عن روض من بنفسج، وساحة من ورود، وعن شحرور يغني وحيداَ، وعن قمر لكل العيون، وعن مطل، وأرث قديم، عن ممر، عن منارة، عن بيت من حجر قديم، عن فضاء هجم عليه الضباب في ساعة الغسق، وإذا ما بزغ الصبح، وهب النسيم، تحول تغريد الطيور إلى نشيد لطيف، أشد التأمل بين خيوط المطر إذا ما الشمس بانت، وأبقى أسامر الليل حتى تنام المدينة، وأمضي مع كل صباح، أفتش بين الأمكنة عن تواريخ قديمة، وعن السفوح الظليلة، عن العشب، عن لون البنفسج، عن السحابة، عن ابتسامة عابرة، عن ربيع هامت بين أزهاره فراشه، عن نافذة يهطل من خلفها المطر، عن قطار يسافر بين الوهاد وبين التلال وبين الجبال، عن مكتبة في الركن عتيقة، عن شارع غطى وجهه الصقيع، عن حقل للسنابل والتفاح والعنب، عن عرائش للتوت والتين والرمان، عن رائحة الياسمين، عن فوانيس عمرت أكثر من عمرها المفترض، عن الشموع والفتيلة، عن أعمدة تحكي عن تاريخ قديم، عن رياح خفيفة تشي ببداية ربيع جديد، عن سديم عليل، عن نباتات برية محدثة مع بعضها عناقاً بهياَ، عن مناظر تجاوز حد التطابق، تسكن ثنايا الروح فيها، ويستكين القلب لها، عن أشجار السرو الطويلة، عن طائر السنونو، يخالج غناه خلايا الجسد، عن موكب الغيث، وجمر الوهج، والقنديل العتيق يوقظ في المعاني، يردني لخوالي المكان والزمان، عندها تجيء إنثيال القوافي، مثل سيل هادر، ومثل مرايا تدون لنا جميل الحكايا، وكيف كان الصحاب، ما بقى درباً في الطفولة إلا مشيناه معاً، ولا ممر، والذكريات القديمة شاهدة لنا، وحينما يتشابك صخبنا، لا نعلم سوى إننا من تلك الحواري العتيقة، أسافر لكي أتأمل نضارة الأرض، ونبض الحياة، وإيقاع البشر، وأطير فرحاَ كأنني خففة صقر في أوج حنينه إلى عناق الفضاء، وإذا ما هب النسيم فوقالتلال العاجية، يخفق قلبي شوقاً عابراً بابتهال قويم، لأصبح مثل عصافير الخميلة على إيقاع الصباح، أو مثل فصيل اليمام عند انعتاقه من طوق السياج، أو مثل فراشة حطت على راحة الكف وحيدة، هو السفر انتعاش لذيذ، مثل نفل البراري والأقحوان في ربيع الشمال، ومثل عينين مكحلتين بكحل مميز، أو ساعدين منقوشين بحناء بهية، أو ذائبة طويلة، هو السفر أقصى شهقات انبهاري، أستريح معه بألق لذيذ، كأريج وردة في تجليات العناق، كغزال بري أجمح في رحاب السفر، ففراسخ العمر طالت واستطالت، والذاكرة أتكأت على الذاكرة، تعيد ماضيها الجميل، فيا أيها الناس: روحوا عن أنفسكم بالسفر، خذوا راحة في خدير الفضاء، ابحثوا عن الغيم والمطر، والديم والسحاب، غازلوا العشب، وحقل القمح، وبستان الفاكهة، عبوا من ماء الحياة، وعانقوا الزهر، وفي الفجر أصغوا لنداء الآذان، وصوت اليمام حين يسامر الحمام، ارسموا السعادة، وأوقدوا الفرح، وجددوا العزم الأكيد، على المضي بسلام، نحو الأماني الباسقة، فشمالنا بهي، وجنوبنا بهي، وغربنا وشرقنا منارة، ووسطنا بستان، فاسعوا في مناكب أرضنا الزكية، ففي أرضنا جنات خضر، وفيها اللون والزخرف، وفيها السحر والدهشة، والكرستال والنرجس، وفيها الأرث والبحر والتحفة.