اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
الجاه هو أحد المالين، وفيه رفد للمستعين وله زكاة مثل زكاة المال، وتختلف حالات الجاه باختلاف الحاجة إليه ومكانة الذي يبذله، حيث يبلغ أعلى مراتبه في حالات إصلاح ذات البين خاصة تلك المتعلّقة بالقتل، وذلك لارتفاع سقف الجهود المبذولة فيه والنتيجة المترتبة عليه، متخذاً الجاه في هذه الحالات شكلاً يُميِّزه عن ما دونه من الشفاعات التي تندرج تحت اسمه وينطبق عليها مفهومه.
والجاه من ألطف الصنائع وأكثرها تأثيراً في النفوس إلى درجة أنه في بعض الأحيان يكون أكثر من المال نفعاً، وقد قيل: ذو الجاه معوان، لحرصه على بذل الخير ومساعدة الآخرين، وصاحب الجاه إذا ما بذله لمن يطلبه ممّنْ يحتاج إليه حظي بكثرة الأتباع والأشياع، حيث إن الجاه بالبذل ينمو ويزدهر، وبالبخل يضمحل ويندثر، ومَنْ منحه الله جاهاً فهو موعود بالزيادة إن شكر، وبالنقص إن كفر، ولكل شيء زكاة وزكاة الجاه بذله للمستعين، وشفاعة اللسان أفضل زكاة الإنسان.
والجاه تزداد قيمته في تناسب طردي مع حجم موضوعه وقيمة الذي يبذله، فكلما علا شأن صاحب الجاه وارتفع مقامه عظمت قيمة الجاه وازداد احتمال تأثيره عند المطلوب منه في صالح الذي يطلبه، وهذا التناسب يقابله تنساب آخر هو أهمية وخطورة موضوع الحالة المطلوب القيام بالصلح بين أطرافها، إذ إنه كلما كبر حجم الحالة زادت العناية بها، وانعكس ذلك الاهتمام على باذل الجاه والمبذول له والذي يُطلب منه.
ويتعين على الذي يبذل الجاه أن يبذله مسروراً لا كارهاً، وأن لا يفسده بالمن والاستطالة والتعالي على الذي يطلبه أو يُشوُّه مسعاه الحميد وعمله المشكور بالتقليل من شأن المحتاجين لذلك، بل يتواضع ويخفض الجناح لمن أحسن الظن فيه وطلب منه الجاه أو الشفاعة، مدركاً أن حاجة الناس إليه تعتبر نعمة يجب عليه شكرها، لأن أحسن أيامه هو اليوم الذي يكون فيه مقصوداً لا قاصداً.
ومن المعروف أن الحالات التي تدعو إلى إصلاح ذات البين كثيرة ومتنوِّعة، تبعاً لتنوّع أسبابها وتعدد مصادرها وطبيعة أحداثها ودرجة خطورتها والأطراف المشتركة فيها، وتداعياتها الحاصلة والمحتملة، كما أن الجاه المطلوب لتحقيق الصلح الذي يرضي الطرفين يستدعي تقديراً دقيقاً للموقف بهدف تصنيف الحالات وموقف أطرافها، مع مراعاة أن يكون صاحب الجاه قدوة في نفسه، وأن يتعامل مع المجني عليه والجاني بشكل يُشفي غليل الأول، ويجعل الثاني يشعر بالندم، تائباً عن فعله، ومكفِّراً عن ذنبه، وشاكراً لمن أسدى إليه معروفاً.
والجاه من الأعراف المرعية التي استأثر بها الأخيار دون الأشرار، فضلاً عن أنه من لزوميات المروءة التي يتحمّلها الكرام، ويحيد عنها اللئام، نظراً لثقل محملها، وشدة مؤونتها بحيث لا يصبر على تحمّل أعبائها إلا أهل المروءات الذين يجدون متعة في مد يد العون إلى مَنْ يحتاجها وهؤلاء الأخيار هم الأجدر بأن يُقتدى بأفعالهم وتُتبع أحوالهم، لما يتحقق بفضل مساعيهم الخيِّرة من حقن الدماء وإشاعة الصفاء وتوثيق الإخاء وإزالة الجفاء.
وعندما يتعلّق الجاه بالصلح، فالأمر له أبعاد بعيدة، إذ يحتاج الجاه إلى التخطيط الجيد والتحضير المسبق، علاوة على التمهيد للجهود العلنية بجهود سرية، تجري في بيئة صحية يسودها حسن النيَّة والعمل المخلص والاحتساب إضافة إلى العدل المطلق والإنصاف، بما في ذلك التعامل مع طرفي الصلح بصدق وأمانة دون تفريق أو تمييز بينهما إلا في حدود ما يمليه حال كل منهما وما ينفرد به من خصوصية.
وفي بعض الحالات يكون الجاه جامعاً على هيئة ما يُعرف عند العامة بالإقبال، وهي الوفادة على المجني عليه أو وليه التماساً لتقدير هذه الوفادة والرد عليها بالتسامح والعفو، الأمر الذي تشتد معه الحاجة إلى تأكيد انعكاس السريرة على السيرة من خلال إثبات أن الندامة كفارة للذنب، والاعتراف يهدم الاقتراف عن طريق التحلّي بالوقار وإظهار هيبة الموقف مع الأخذ في الحسبان اختيار المتحدث باسم الوافدين الذي يدرك قيمة الكلمة وتأثيرها على النحو الذي يراعي أن يتضمن كلامه الإقرار بحق المجني عليه ومخاطبته بما يمتص غضبه، ويُذهب غيظه ويبرد غليله، نائياً بنفسه عن الثرثرة ونكاية الجروح المندملة.
وحتى يطرح الجاه ثماره، ويؤتي أكله، لا غنى له من أن يفعل مفعوله في الحصول على العفو والتسامح أو التنازل عن حق مشروع، بعيداً عن الشروط المسبقة والممارسات الصورية ذات الطابع التمثيلي أو المدبرة بليل، والفاعلية في الجاه لن تحصل ما لم يتم توضيح أهدافه، وتلتقي مصلحة أطرافه، بطريقة تسمح بالموازنة الدقيقة والمنصفة والأخذ والعطاء ضمن مسار الصلح الذي يُخرج المتصالحين من دائرة الخلاف والشقاق إلى دائرة الوفاق والاتفاق.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فإن العرف السائد الذي يدعو إلى إصلاح ذات البين تحول بالنسبة للبعض إلى تصرف فاسد، فالجاه ذو الطابع الجماعي الذي يمارس في حالات الإصلاح أصبح أقرب ما يكون إلى تظاهرة مُتسيَّبة تمارس فيها ممارسات بائدة وعادات مندثرة عفا عليها الزمن، كما جعل منها الداعون إليها غاية بدلاً من أن تكون وسيلة غايتها الإصلاح، ومرد ذلك يعود إلى انحراف الجاه عن هدفه الإصلاحي وافتقاره إلى مقومات الإصلاح وعوامل النجاح.
ومن ينظر إلى حالة واحدة من حالات الجاه الجماعي التي سبق القيام بها من قبل البعض يتضح له بجلاء وجود ممارسات خاطئة، لا يمكن أن يستقيم معها مفهوم الجاه ومغزاه، بل كانت هي السبب عن إفراغه من مضمونه وتشويهه، وجعله يبتعد عن هدفه، وهذه الممارسات تتمثَّل في حب المظاهر واللهث وراء الممادح الكاذبة والمحامد الخائبة، بالإضافة إلى التسِّيب والتصرفات التي أراد منها الوافدون الإصلاح فوقعوا في نقيضه إلى الحد الذي لم يعالج جراح المجني عليه، ولم يشف غليله، بل أثار ضغينته واستفزَّ حفيظته، محركاً بواعث الثأر، ومؤججاً مشاعر الانتقام لديه، وكل ذلك يحصل في الوقت الذي أراد فيه أولئك القوم التغلب على هذه الرذائل وإحلال فضائل التسامح والعفو والحلم والصبر محلها.
ومن المفارقات الغريبة أن هناك من بعض المحسوبين على الجاه والمتطفلين على إصلاح ذات البين مَنْ أصبح يناقض نفسه، وذلك بالدعوة إلى الشيء والعمل ضده، حيث يتخذ هؤلاء من الجاه غطاءً لحمالات وديات مبالغ فيها، ويستخدمونه مطية بالتستر على حملات وديات مشروطة، يختفي خلفها دوافع بعيدة كل البعد عن ما يهدف إليه الجاه ويتطلبه الصلح، وكأن الجاه اُريد به تسويغ صنيع المغالي والمرتزق وجعل ما أراده أمراً مشروعاً وواقعاً مألوفاً.
والمغالاة في عوض التنازل والديات، وكذلك التكسّب غير المشروع يُشكِّل هذا الأمر أهم المحاور التي تتمحور حولها الممارسات الخاطئة والتجاوزات المرتبطة بإصلاح ذات البين، فالمغالي والمرتزق عادة ما يتخذان من التبرعات والمغالاة في الديات والجاه أهدافاً للتسربل بسربالها، والعمل تحت ظلالها بحيث يحاولان الاستفادة من ذلك كذريعة للمبالغة في التعويضات والديات من جهة، ووسيلة إلى التكسّب غير المشروع من جهة أخرى.
والأوامر الصادرة من الدولة بمنع التجمعات التي يُقصد منها جمع التبرعات سوف يمتد ظلها إلى أي تجمع يحاول الالتفاف عليها أو يخالف ما تدعو إليه، خاصة فيما يتعلّق بالحمالات والديات وخطوات الصلح التي أفضت إليها، بوصف حالة الصلح ذات ضوابط حاكمة، إذا اختل أي منها فقد الصلح قيمته ولم يعد صلحاً.
ومنع تجمعات ما يعرف بالمراسم يمثِّل إيذاناً بتساقط أوراق التوت بشكل يجعلها تستوي على الجودي بعد عقود زمنية اختلط فيها الحابل بالنابل بين عرف الأخيار وتصرّف الأشرار.