د.محمد بن عبدالرحمن البشر
عندما يعود المرء بذاكرته بضعة عقود، يدرك مقدار تسارع التطور التقني الذي يشهده العالم اليوم، فمن أتيح له الابتعاث إلى دول الغرب في السبعينات، سيتذكر بداية ظهور الحاسب الآلي إلى السطح، والحديث عنه بإسهاب، وسيتذكر العدد الكبير من المبتعثين الدراسة الإلكترونيات، ويبحر في ذلك فتبرز بين ناظريه تلك الغرفة الكبيرة التي وضع بها الجهاز المعجزة آنذاك المسمى بالكمبيوتر، وقد اصطف الطلاب في صف والكروت الصفراء المخرومة بين يديهم، ليظهر لهم بعد أربع وعشرين ساعة أوراق كثيرة متراكمة بها حل المشكلة الرياضية التي كانوا يرغبون في حلها، وكأن ذلك الصيد الثمين قد تحقق بأيسر من العمليات الحسابية التي يجريها أحدهم بيده، أو بالآلة الحاسبة التي رافقته فترة طويلة سابقة. كانت تلك الغرفة المعجزة، مقصد الباحثين والدراسين، من طلاب وأساتذة، والنظرة إلى أولئك العاملين فيها، والقائمين على تشغيلها وإصلاح ما قد يعتريها من عطل، نظرة إعجاب لمقدرتهم على التعامل مع هذا الساحر الجديد، الذي يغنيك عن إنجاز بعض العمليات الحسابية دون عناء. A
استمر ذلك فترة من الزمن، وأخذ الحجم يتقلص، والعدد يكثر، والانتشار يزيد، ويزيد معه عدد المتخصصين، وتزيد عدد الشركات المنتجة، ويتسابق الجميع لتحسين حال هذا الجهاز، ويتحقق الكثير في سباق مع الزمن، ويتواصل حتى يومنا هذا.
اليوم يستطيع أي جهاز تحمله في يدك أن ينجز مئات الآلاف من العمليات التي كان ينجزها ذلك الجهاز في وقت أسرع، بل في لمح البصر، وبلمسة من الأنامل لقطعة محمولة بين يدي أي فرد، وفي أي مكان في العالم.
كان البعض يتعجب عندما يسمح الأستاذ بإدخال الآلة الحاسبة إلى قاعة الامتحان، وتراه قد تقدم على غيره في فكرة، فيمكن للطالب الاستفادة منها، واليوم يمكن للمرء أن يحقق ما يبتغيه عبر هاتفه، أو جهازه الآلي المحمول، دون عناء، لكن المهم أن يعرف الأسس التي بنيت عليها تلك العمليات.
لقد تخطى العالم إبداعات هذا الجهاز فأصبح متاحاً، لكن أصبحت تطبيقاته والاستفادة منه هو مجال التسابق، وما يشاهده المرء اليوم هو من سباق محموم في هذه التطبيقات الخدمية البسيطة، أو تلك المعقدة في مجال الطب، والإنسان الآلي، واكتشاف آفاق الكون الفسيح الذي وصنعه الله للبشرية، لتتفكر ويزيد إيمانها، كل ذلك يبني على خطوات سريعة إلى عالم ليس فيه جديد، بل كل يوم من أيامه فيه شيء جديد، فلا تكاد شمس يوم تشرق إلاّ ويسمع من هنا أو هناك، فتحاً علمياً جديدًا، لا تمر سنوات محدودة إلاَّ ونجده حاضرًا بين أيدينا، فنستعمله، وتستفيد منه في المجالات المتعددة، وهذا ما يسمى اليوم بالذكاء الصناعي.
أذكر أن أحد أساتذة الإحصاء في أمريكا يجبر طلابه على إجراء العمليات الحسابية دون استخدام أي جهاز، معتقداً أن الاعتماد على الآلة بشكل مفرط، يصيب التفكير بالخمول، وقد يكون لذلك أثر في قدرته على التفكير في أمور كثيرة سواء حسابية، أو اجتماعية.
ربما يكون مصيباً أو قد لا يكون، لكن الذي لم تحققه الأجهزة بسرعاتها الفائقة هو التأثير على التعامل البشري، وطريقة التفكير الإيجابية، والنظرة التي يكسوها الأمل والطمأنينة.
لقد حققت هذه الأجهزة الكثير في الشأن المادي، لكنها حتى الآن لم تؤثر على النفس البشرية، ولم تجعلها تحيد قيد أنمله عن أسلوب تفكيرها الذي ورثته وأضافت إليه البيئة عوامل إيجابية أو سلبية، قد تقلل من تلك الطبيعة، أو تزيدها.
النفس البشرية هي الروح والحياة، وهذا التقدم المادي الرائع والعظيم، إذا لم ينعكس تأثيره على زرع مزيد من السعادة، أو تقليل مقدار الألم والحزن والصراع النفسي الذي يداهم الإنسان من فترة إلى أخرى، فهذا يعني عدم تحقيق المؤمل من تلك الأجهزة الرائعة والمفيدة.
فهل يا ترى نستطيع أن نستفيد منها لنعيش حياة أفضل؟