د. عبدالحق عزوزي
«خروج بريطانيا من أوروبا» كانت هي الجملة الصاعقة التي نزلت شؤمًا ومصيبة على كل رعاة وبناة الاتحاد الأوروبي وعلى كل أولئك الذين يؤمنون بقيم الوحدة الأوروبية والتعاون المشترك.. بريطانيا دولة عظمى منذ قرون، عرفت الديمقراطية في شرايينها قبل أن تعرفها دول عريقة كفرنسا أو الولايات المتحدة الأمريكية...
وعلى خلاف الولايات المتحدة الأمريكية، المملكة البريطانية موجودة في أوروبا، القارة التي استطاعت النهوض من ويلات الحرب العالمية الثانية وبناء نموذج تكتلي ناجع، ولكن بناء الوحدة والتكتل مبنيان على قاعدة مساعدة الدول القوية للدول الضعيفة، كما أن الدول الضعيفة فيها تجعل من أسواقها وأبنائها رساميل للدول القوية، ولا يمكن أن ينجح أي تكتل في العالم وبالأخص الاتحاد الأوروبي إلا من خلال هاته المعادلة، وهنا الداهية العظمى.
الذي كان قد وقع منذ أزيد من ثلاث سنوات وجعل رئيس الوزراء آنذاك دافيد كاميرون يستقيل، والمؤسسات الأوروبية تدخل في حداد طويل، والتحالفات الإستراتيجية بما فيها الأمريكية - البريطانية ثم الأمريكية - البريطانية - الأوروبية تستيقظ على زلزال قوي، هو أن البعد الوطني السيادي الأحادي قبر البعد الوحدوي الاتحادي التشاركي، وأن الذي قام بهذا التوجه ليست دول كالبرتغال أو كهنغاريا وإنما أقوى دولة أوروبية ومن أقوى دول العالم، فلم تفلح دعوات الرئيس الأمريكي آنذاك الذي نادى البريطانيين من قلب العاصمة لندن بالتزام الحكمة، ولا دعوات الشركات العابرة للقارات من إبقاء البلد حفظًا على مصالح البلاد والبشر، ولا وصول عمدة مسلم إلى بلدية لندن أقوى العواصم في العالم. لم يفلح كل هذا في إقناع متكلمي لغة شكسبير من تفضيل البعد الاتحادي على البعد الوطني. البريطانيون رجال متعلمون، يلج أبناؤهم أعرق الجامعات، وأصبحت البلدة عاصمة للبحث العلمي والاقتصاد وعالم المال في العالم، وقبل هذا وذاك لهم إحساس دفين أنهم شعب التاريخ المختار، وأنه لا لأحد يحق له إملاء القوانين أو الدروس على مسيرة البلد السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية التي رسمتها منذ قرون.
المشكل أنه منذ ذلك الوقت وصداع لا ينتهي من جراء كيفية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ومعارضة البرلمان البريطاني لكل المقترحات والخطط التي أتت بها رئيسة الوزراء تيريزا ماي.
فالغموض يظل سيد الموقف حول كيفية الخروج، وذلك بعد تصويت أغلبية النواب البريطانيين ضد جملة من البدائل المحتملة لاتفاق «بريكست» بينها إجراء استفتاء ثان. وكان من المقرر أن تخرج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي في التاسع والعشرين من مارس/ آذار. إلا أن ماي حصلت خلال قمة أوروبية عقدت في 21 و22 مارس/ آذار على إرجاء حتى الثاني عشر من أبريل/ نيسان في حال لم يتم إقرار اتفاق الطلاق، وحتى الثاني والعشرين من مايو/ أيار في حال تمت الموافقة على الاتفاق في مجلس العموم.
وحذر مسؤول أوروبي من خروج المملكة من الاتحاد بدون اتفاق في ظل استمرار هذا الوضع. وكانت بروكسل قد حددت 12 نيسان/ أبريل موعدًا نهائيًا لإقرار الاتفاق المبرم مع رئيسة الوزراء أو إيجاد بديل عنه أو الخروج من دون اتفاق.
ولم تحصل البدائل المقترحة والقاضية بإقامة علاقات اقتصادية أوثق مع الاتحاد الأوروبي بعد «بريكست» (اقتراحان)، أو بإجراء استفتاء ثان، أو بوقف «بريكست» تفاديًا لخروج من دون اتفاق، على أغلبية من الأصوات في البرلمان.
وفي أول رد فعل من بروكسل، حذر مسؤول ملف «بريكست» في البرلمان الأوروبي غي فرهوفتشاد من أن فشل النواب البريطانيين في التوصل إلى بديل لاتفاق «بريكست»، يعني أنه بات شبه مؤكد أن بريطانيا ستخرج من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق لأن مجلس العموم صوت مجددًا ضد كل الخيارات.
بريطانيا تشهد وستشهد مرحلة انتقالية صعبة، ستشهد بلبلة في الأسواق وفي حي المال والأعمال؛ في لندن يمكن أن تؤدي إلى هبوط سعر الجنيه الاسترليني بنسبة 15 إلى 20 في المائة، وإلى تضخم بنسبة خمسة في المائة، وزيادة في كلفة العمل، فيما سيتراجع النمو واحد إلى 1.5 في المائة، حسب مصرف اتش إس بي سي، كما سيتم نقل آلاف الوظائف من حي المال والأعمال إلى مركزي فرانكفورت وباريس الماليين وغيرهما، وأنا على يقين لو أنه أقيم استفتاء ثانٍ لتراجع البريطانيون عن قرارهم المرتجل الذي يقضي بخروجهم من الاتحاد الأوروبي ولردوا عقارب الساعة إلى الوراء.