عندما يهمّ أحدنا ببناء بيت العمر فإن جل ما يهتم به هو مجالس الضيوف، وشكل المنزل من الخارج. بقية الغرف والخدمات التي يتعايش معها طول الوقت ليست مهمة بقدر ما سيراه الناس/ الضيوف، وما سيجلسون فيه وإن كان لساعات قليلة في السنة بأكملها. نرغب في أن نبهر عابر الطريق والضيف بمنزلنا، وليس مهمًّا بعد ذلك إن عشنا في غرف ضيقة ورطبة سيئة التصميم والتشطيب.
نحن نحرم أنفسنا ونخبئ أفضل المفارش وأطقم السفرة والمناشف.. إلخ من الأدوات لنضعها في خدمة زوارنا حتى يعرفوا إلى أي حد نحن نملك أدوات جميلة وفاخرة وغالية، وليس مهمًّا بعد ذلك إن عشنا على أسوأ الأدوات في حياتنا اليومية.
هكذا نحن على المستوى الشخصي، وأظننا كذلك على المستوى المؤسساتي والمجتمعي؛ فالتجمّل بالمظهر وإخفاء العيوب بدلاً من علاجها يبدو أنه ثقافة عامة، وسمة اجتماعية، نتشارك فيها على المستوى الفردي والجمعي على حدّ سواء. فنحن لا نمتلك ثقافة نقد الذات وتحليلها وتشريحها بالمطلق، لا في ممارستها ولا في تقبُّلها أيضاً.
في حين أن التحليل والنقد المستمر هما أهم مرتكزات تقييم جودة أي عمل بشري للوصول به إلى أعلى درجات الجودة بعيداً عن التقليل من قيمة هذا العمل أو شخصنة النقد للقائمين عليه.
المجتمعات المتقدمة أدركت بشكل مبكر أن لا كمال في عمل بشري على الإطلاق، وأن القيام بالتحليل والنقد وإظهار الخلل في العمل هو جزء أصيل من هذا العمل؛ لكونه المحرض الأهم للتحسين والتطوير فيه. من هنا تم ترسيخ ثقافة النقد والتحليل في عقلية الأفراد، وفي الهيكلة الإدارية والتنظيمية للمؤسسات، بالشكل الذي جعل ممارسته تتم بشكل تلقائي وسلس وبديهي بدون تأويلات ولا اتهامات ولا إحساس بالكيد والمؤامرة.
في حين أن جميع المجتمعات المغلقة والمتمركزة حول ذاتها تعتقد نفسها فاضلة بالشكل المطلق للفضيلة، وفي كل ما تمارسه؛ وبالتالي لا تتقبل النقد فيه لكونها لا تستطيع فصل العمل عن ذاتها؛ فتعتبر كل نقد لأي عمل تقوم به هو نقد مباشر لذاتها العليا.
لذلك فإن إثارة القضايا النقدية بالمجتمعات المغلقة -كما هو حال مجتمعاتنا العربية - تحتاج إلى ذكاء في التعاطي وفي التقديم لتمرير هذه القضايا بطريقة سلسة، وغير جارحة لمعتقدات الفضيلة المطلقة التي يتصورها المجتمع عن نفسه بدلاً من الطريقة الشعبوية المستفزة التي تسعى للإثارة والتحشيد أكثر من سعيها لمعالجة هذه المشاكل بطريقة واعية وراقية، لا تخدش قناعات المجتمع، ولا تتصادم مع رؤيته لنفسه.
** **
- تركي رويّع