د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
«إننا لا نحيا لنكون سعداء.
عندما قلتَ هذه الكلمات في عام 1934 أصابني الذهول، لكنني أدركت الآن ماذا كنت تعني، وأعرف أنَّه عندما يكون شأن المرء شأنَ طه، فإنه لا يعيش ليكون سعيدًا وإنما لأداء ما طلب منه. لقد كنا على حافة اليأس، ورحت أفكِّر: (لا، إننا لا نحيا لنكون سعداء، ولا حتى لنجعل الآخرين سعداء)، لكني كنت على خطأ؛ فلقد منحتَ الفرح، وبذلتَ ما في نفسك من الشجاعة والإيمان والأمل. كنتَ تعرف تمامًا أنَّه لا وجود لهذه السعادة على الأرض، وأنَّك أساسًا، بما تمتاز به من زهد النفوس العظيمة، لم تكن تبحث عنها، فهل يُحظر عليّ الأمل بأن تكون هذه السعادة قد منحت لك الآن؟»(ص25).
بهذا بدأت السيدة سوزان (الفرنسية) زوجة الأديب العربي الدكتور طه حسين(*) كتابها (معك) الذي جعل له عنوان تفسيري (من فرنسا إلى مصر «قصة حب خارقة» سوزان وطه حسين 1915-1973)، وهو كتاب حياة عاشقين جمعتهما أسباب الدراسة وظروف الحرب العالمية، قهرا معًا كل الظروف واحتملا الحياة بلحظاتها السعيدة وبلحظاتها التعيسة، سعدا بنجاحاتها وتحملا خيباتها، كتاب حياة أسرة صغيرة متحابّة، نالها النجاح بفضل قوة عزيمة كل فرد منها، طه حسين وزوجه سوزان وابنته أمينة وابنه مؤنس. وهو كتاب حياة أمّة تعاورتها الصراعات الخارجية في حقبة الملكية التي عصفت بها الثورة وحلت محلها الجمهورية.
يعرف القارئ طه حسين بقراءة كتبه الأدبية والإبداعية، ويفتنه أسلوب جميل تفرد به، يحيل اللغة إلى معزوفة موسيقية مدهشة، لست أنسى كتابه (الأيام) الذي قُرّر علينا في الجامعة مع غيره من الكتب مادة للقراءة، فافتتن الطلاب بلغة الكتاب، وذهلوا عن مضمونه، حتى إذا جاءهم سؤال عن المضمون في الاختبار النهائي لم يجيبوا بشيء.
كتاب (معك) سجل لتفاصيل دقيقة من حياة طه حسين وأسرته، وقد أخلصته السيدة سوزان لوصف ما عاشته مع طه حسين معبرة عن عاطفة قوية ومحبة وفخر بهذا الرجل العظيم الذي بذل نفسه للعلم والتعليم ولكل ما يراه خيرًا لبلده، وباسمه ارتبطت مجانية التعليم، هذا الكتاب سِجل لعلاقاته وصداقاته لأسماء مشهورة في دنيا الثقافة والعلم الغربي والشرقي مثل كازانوفا، وبرجشتراسر، وماسينيون وأولمان، وليتمان، وبلاشير، ونللينو، وطاغور. نالته شهادات تكريم ومؤتمرات احتفاء من ذلك شهادة الدكتوراه الفخرية من جامعة ليون 1933م. ومن جامعة مونبلييه 1946م. ومن جامعة أكسفورد في 18 نوفمبر 1950م. وتروي لنا السيدة سوزان بعض الزيارات والاجتماعات التي تعقد في بيته، يزوره القادمون إلى البلاد وأرباب الفكر والسياسة من أهل مصر، تقول سوزان «ولسوف ألتقي بنساء رائعات؛ ففي مايو 1952 كانت هيلين كيلر تزور القاهرة، وطلبت أن تلتقي بطه؛ كانت قد قالت عن هذا اللقاء: (سيكون لقائي مع طه حسين أجمل يوم في حياتي). وكنّا نشعر بانفعال شديد حين ذهبنا، طه ومؤنس وأنا، إلى فندق سميراميس، ونتساءل كيف سيدور الحديث مع امرأة لم تكن عمياء فقط، وإنما صماء بكماء أيضًا. والحق أن ذلك لم يكن صعبًا على نحو ما انتظرنا؛ أوّلًا لأنَّ هذه المرأة كانت بشوشة بقدر ما كانت لطيفة، كما كانت ذكية إلى حدّ خارق، ثم لأنه كان بالقرب منها سكرتيرة مدهشة ... كانت تعرف بالطبع لغة الصمّ والبكم في مثل هذه الحالة الخاصة إلى حدّ كبير، كانت تنقل الأسئلة والأجوبة بسرعة من طرف إلى آخر، وذلك بضغطة تقوم بها على حنجرة هيلين، أو بمسِّ قبضتها»(ص170).
من المواضع التي استوقفتني حديث (سوزان) عن كتاب دونالد روبينسون (أهم مائة شخصية في العالم)، قالت «لم نكن نعرف إطلاقًا أن روبينسون كان يفكِّر في هذا الكتاب. كنّا قد تعرفنا بهذا الكاتب الأمريكي خلال اللحظة الدرامية في أثناء حريق القاهرة؛ كان يقوم برحلة إلى مصر بصحبة زوجته، وكان ينزل في فندق شبرد، واحترق الفندق فأضاعا كل حقائبهما، لكنهما لم يفقدا مرحهما. كنت قد وعدتهما باصطحابهما إلى سقارة، وذهبنا إليها برغم كل شيء... وعدنا معًا للغداء في البيت. في ذلك اليوم تحدث طه كثيرًا مع دونالد، وها نحن نعلم دَهشين أن طه يمثل لا بين الشخصيات المائة المختارة فحسب، بل ضمن التصنيف الأضيق؛ بين الرجال العشرة الذين طبعوا عصرهم أيضًا، مع برتراند رسل وتشرشل، وأينشتين ... كان هذا الاختيار بالطبع تعسفيًّا، وكان هناك بالطبع كثير من الأسماء الغائبة، على أنَّ ما أراده الكاتب هو (أن يشير في كلِّ ميدان من ميادين الفعالية الإنسانية إلى الإنسان الذي كان يصنع الغد). وقبل سنوات عدَّة أُعيد طبع هذا الكتاب ثانية، فأضيفت إليه بعض الأسماء وحذفت منه أسماء أخرى، أما طه فقد بقي اسمه ماثلًا فيه»(ص176-177).
تدرك حين تقرأ هذا الكتاب كيف عاش طه حسين حياة حافلة بالإنجاز، وأن هذا ما كان ليتحقق في الصورة التي تحقق بها لولا رعاية كريمة حانية محبة تمتلئ بالفخر برجل لم تعقه عاهته عن الإبداع العلمي والعملي، فاستحوذ على محبة آلاف الناس وعلى تقديرهم واحترامهم لشخصه، لم يكن ليتمكن من هذا الإنجاز لولا تحمل هذه المرأة الصبور واحتمالها كثيرًا من أعباء الحياة عن زوجها الذي كانت عينه المبصرة وأداة تصله بما حوله وصلًا دقيقًا شافيًا، لولا هي ما توافر له من الوقت للتحصيل والبحث وإنجاز مكتبة ضخمة أثْرت المكتبة العربية وأسهمت في تشكيل عقول كثير من المثقفين. قد يتوقف بعض الناس في بعض أقواله وآرائه متأثرين بمقولات خصوم سياسيين في المقام الأول؛ ولكن النَّصَفة تدعو لاحترام شجاعة هذا العالم الأديب المفكر المبدع الذي أمتع عقولنا بما وهبنا من كنوز معرفة خالدة.
هذا كتاب (معك) الذي كتبته سوزان طه حسين، وترجمه بدر الدين عرودكي، وقدمت له أمينة طه حسين، ووضع حواشيه زينا ويجان وبرونو رونفار، وراجعه محمود أمين العالم، وأعادت طباعته مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة في 2015م، وهو بحق كتاب جدير بالقراءة.
... ... ...
(*) اسمه الكامل: طه بن حسين بن علي بن سلامة، ولد في 1306 ه، وتوفي في 1393هـ.