حمّاد السالمي
* في الطائف المأنوس؛ ومنذ أكثر من أربعين سنة فارطة؛ كنا نسأل بعضنا بعضاً إذا تقابلنا في المدرسة، أو العمل، أو الطريق، هذا السؤال: أين تذهب هذا المساء..؟! وكان هذا حال الكثيرين في الرياض وجدة ومكة، وكثير من مدن المملكة قبل طوفان الصحوة غير المباركة.
* لا تتعجبوا من هذا؛ خاصة من لم يعش منكم سنوات الانفتاح التي كنا عليها، يوم كنا في مجتمع طبيعي ليس فيه مكدّرات ولا منكّدات. كنا نغشى مجالس العلم والوعظ في المساجد ودور العلم، وكنا نشهد كذلك محافل الترفيه والطرب، وكنا نشاهد الأفلام العربية وغير العربية في أكثر من ثلاث عشرة دار سينما موزعة على أحياء الطائف، وكان لحفلات الأعراس والمناسبات التي تقام في الميادين العامة والشوارع وسط الأحياء؛ حضور كبير، يردد مع طلال مداح وطارق عبد الحكيم ومحمد عبده وفوزي محسون وعبد الله محمد؛ أجمل الكلمات الشعرية، وأحلى المقاطع الموسيقية. إلى جانب مناشط رياضية مفتوحة، وأعمال مسرحية يرعاها التعليم. كانت واعدة ومبشرة إلى أن تم وأدها. وكان للعوائل أماسيهم الترفيهية والفنية عصر ومساء كل يوم في بساتين المثناة والقيم وغيرها، لملاقاة ابتسام لطفي، وفوزية صيرفي، وتوحة، والحامدية، وعتاب وغيرهن.. كنا وكنا.. ثم بِنّا بعد ذلك بفعل فاعل، وحتى طال بينُنا، حتى جاء اليوم المشئوم الذي خطف البسمة من كل الأفواه، واغتال الفرحة من كل القلوب، ولأننا مجتمع خلاق مبدع؛ بحثنا عن بديل لهذا العزيز المفقود.. بحثنا عن دار السينما والمسرح ومحفل الفنون والفرح، فما وجدنا غير (الاستراحة)..! استراحة تجمع الزملاء والأصدقاء والأصحاب، يأكلون فيها ما لذ وطاب، ويلعبون الورق، ويتبادلون فيها النكات والضحكات والمقالب الساخنة؛ في محاولة لخلق ابتسامة ضائعة، وفرحة تائهة. آه.. الاستراحة.. يا لها من اختراع سعودي فريد ليس له مثيل، حتى صار البعض يسأل البعض الآخر في زمن الصحوة: أين تذهب هذا المساء..؟ ليس إلى أي مسرح، ولا دار سينما، ولا محفل طربي مما كان فبان؛ ولكن إلى استراحة، فيها يسمر إخوان الصفا، لكسر الروتين الممضّ، وبتر الرتابة المملة، والتقليل من توحش الوجوه، وخشونة الحياة، وجفاف العيش، في مجتمع يخلو من وسائل الترفيه.
* جئنا اليوم بعد بَيْن طويل، ليسأل بعضنا البعض الآخر من جديد: أين تذهب..؟ ليس هذا المساء فقط؛ ولكن هذا المساء، وهذا الصباح، وهذه الساعة. وليس فقط في المدن الكبيرة التي لها تاريخ عريق مع الأنشطة الثقافية الفنية والطربية والمسرحية والسينمائية، ولكن حتى في المدن الصغيرة والطرفية، وحيث يوجد مجتمع نابض بالحياة، ويملك الإحساس بقيمة ما يملك من إمكانات تاريخية وحضرية وإنسانية.
* كنت مع من انتظر بشغف إعلان (إستراتيجية وزارة الثقافة). تسمرت أمام التلفزة للمتابعة لرؤية وسماع التفاصيل الدقيقة، التي تعني الكثير في انطلاقتنا المباركة مع (التحول الوطني)، و(رؤية السعودية 2030). ومنذ أن بدأت قبل ذلك البرامج الثقافية الطموحة من خلال هيئة الترفيه، وهيئة الثقافة، وهيئة الرياضة؛ وخلقت في مجملها حراكًا ثقافيًا منقطع النظير في كثير من مناطق المملكة.. منذ ذلك الوقت؛ وأنا أقول: إنها تمهد وتؤسس لجهاز تخطيطي وتنفيذي عملاق، سوف يسهم بكل قوة في تحقيق تحول ثقافي شامل وواسع النطاق، لكي يصبح لنا حضورنا الثقافي المستحق، الذي يواكب كل التطورات المتنامية في المشهد الثقافي على مستوى العالم.
* ثقافتنا هُويَّتنا.. هذا هو الشعار الجامع المانع الذي انطلق منه سمو وزير الثقافة الأمير (بدر بن عبد الله بن فرحان) مساء الأربعاء قبل الفارط؛ لكي يضعنا أمام خطوط عريضة، ترسم ملامح مارد سعودي ينطلق اليوم اسمه (ثقافي)..! ماذا يعني أن تُعنى وزارة للثقافة بالأزياء، والعمارة، والتصميم الداخلي، والفنون الأدائية، والطعام وفنون الطهي، والأفلام والعروض المرئية، والتراث، والمتاحف، والمكتبات، إلى جانب عنايتها بالشعر، واللغة، والكتب والنشر، والمواقع الثقافية والأثرية، والتراث الطبيعي، والمهرجانات والفعاليات، والموسيقى، والفنون البصرية وغيرها..؟
* ألم أقل لكم.. إننا نشهد ماردًا سعوديًا ينطلق اسمه ثقافي..؟! من ملامح هذا المارد الحبيب إلى نفوسنا: مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية، وصندوق (نمو) الثقافي، وبرامج للابتعاث الثقافي، وتطوير المكتبات العامة، وإقامة مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، و27 مبادرة ثقافية من بينها: بينالي الدرعية، الفرقة الوطنية للمسرح، الفرقة الوطنية للموسيقى، بيوت الثقافة، أكاديميات الفنون، الجوائز الثقافية، مجلات الآداب والفنون، المتاحف المتخصصة، الأرشيف الوطني للأفلام، برنامج التفرغ الثقافي، برنامج ترجمة، المهرجانات الثقافية، برنامج ثقافة الطفل، معرض الفن المعاصر السنوي، أسابيع الأزياء، مهرجان الطهي الوطني، الفن في الأماكن العامة، مدينة الثقافة السعودية.
* البرنامج المعلن عنه في إستراتيجية وزارة الثقافة حقيقة مفرح، لأنه يعيد إلينا ابتسامة مفقودة، وفرحة موءودة، ويحفظ موروثاتنا، ويبرز إبداعاتنا، ويستثمر في آثارنا وتاريخنا وأدبنا وفنوننا وعطاءاتنا الكبيرة. وكما قال سمو وزير الثقافة: (لدينا تراث غني، وتقاليد عريقة ومتنوِّعة تنتمي إلى 13 منطقة، ولدينا مبدعون في مجالات متنوِّعة، وإن عملية تطوير النظام الثقافي، هي عملية بناء مستمرة، وليس حدثاً يتم إنجازه مرةً واحدة).
* عن الكبير المرحوم (غازي القصيبي- باي باي لندن): (مع كل خطّ اجتماعي متعسف أحمر يختفي، تنمو زهرة جديدة من زهور الثقافة).