د.عبدالله مناع
باستثناء القمتين العربيتين: الأولى والثانية.. اللتين عُقدتا في عام 1964م، وقد كانت أولاهما في يناير من أول عام 64م، وكانت ثانيتهما في شهر سبتمبر من العام ذاته.. فقد أخذت القمم العربية تنتظم لقاءاتها سنوياً.. خاصة بعد الانتقال زمنياً إلى الألفية الميلادية الثانية.. لتشهد العاصمة الأردنية «عمّان» أولى قممها التي عُقدت في يومي 27 و28 من شهر مارس من عام 2001م؛ ليتوالى انعقاد القمم العربية تباعاً بعد ذلك في شهر مارس من كل عام تقريباً؛ وهو ما كان يستدعي بالضرورة - في تصوري - التخفيف من بنود جداول أعمال القمم العربية التي تُرفع من قِبل أمانة الجامعة ووزراء الخارجية العرب للقادة والزعماء.. لـ»البت» فيها في جلسة عمل واحدة!! تتوسط زمنياً بين جلستَي الافتتاح وختام المؤتمر، التي عادة ما تكون «برتوكوليه».. يشغلها وداع القادة والزعماء للعاصمة العربية المضيقة لـ «المؤتمر»..!
فهذا الحشد الهائل من «البنود» على جداول أعمال القمم العربية.. التي تصل أحياناً إلى (ثلاثين) بنداً.. لا تكفيه جلسة عمل واحدة مهما طالت.. لـ(التشاور) و(التداول) بين القادة والزعماء.. وصولاً لأفضل القرارات وأصوبها..!؟
فإذا كان غياب القمم العربية بعد قمة (انشاص) مبرراً لهذا الحشد من البنود في جداول أعمال القمم العربية، فقد سقط هذا المبرر بعد عودة القمم العربية للانعقاد مع عام 1964م، وانتظامها بشكل سنوي مع بداية الألفية الثانية.. ومع ذلك ظلت كثرة «البنود» في جداول أعمال القمم هي «القاعدة».. أما التخفيف أو الإقلال من عدد تلك البنود، والاكتفاء بـ(الأهم) منها.. فهو (الاستثناء) الذي لم يحدث.. وبإصرار مثير للدهشة، وكأن الأمانة العامة لجامعة الدول العربية تريد برفع هذا الحشد الهائل من «البنود» إلى القادة والزعماء أن تخلي مسؤوليتها الوطنية والقومية، لا أن تشتت -بالتأكيد- تفكير القادة والزعماء بين تلك البنود.. فلا تصل تلك القمم إلى القرارات المأمولة التي ينتظرها الشارع العربي.. لتعيد له قيمته...!! إلا أن كثرة البنود كانت مدعاة لـ«برودة» القرارات، وبُعدها عما يجب اتخاذه..!
ولذلك تراجعت أهمية معظم القمم العربية.. «عالمياً»، التي كان يتابعها زعماء معسكرَي: الرأسمالية والاشتراكية بـ(مندوبيهما).. وبـ(رسائلهما).. وبـ(برقياتهما) أحياناً، كما تراجعت - بكل أسف - أهميتها عربياً بفضل كثرة تلك البنود، وبرودة القرارات العربية التي استُقبلت بها.. التي لم تعد تخرج عن «الشجب والاستنكار».. أو «المطالبة» بحدهما الأعلى..!!
* * *
لقد فوجئ المتابعون للقمم العربية من المنظمات ومراكز الدراسات والساسة وأصحاب الرأي.. وهم يتابعون مجريات القمة العربية الأخيرة، وهي الثلاثون بين القمم العربية، التي استضافتها العاصمة العربية العزيزة «تونس» في قصر قرطاج، واختتمت يوم الأحد الماضي.. بوقوعها في الخطأ ذاته: خطأ الحشد الهائل من «البنود» على جدول أعمالها.. الذي بلغ عشرين بنداً!! رغم أنه لما يمض عام - بكامله - على ختام القمة التاسعة والعشرين التي استضافتها (المملكة)، التي عُرفت بـ(قمة القدس) كما أسماها الملك سلمان بن عبد العزيز؛ فقد كان هذا التقارب الزمني بين (القمتين) يستدعي بالضرورة تقليص تلك البنود.. والاكتفاء بـ(بنود) مستجدات الأحداث السياسية التي طرأت خلال الفترة الزمنية الفاصلة بين قمتَي القدس وتونس، التي يتصدرها قرار الإدارة الأمريكية الاستفزازي، والمفاجئ، وغير الشرعي، والمناهض لقرار الأمم المتحدة رقم 497، الذي يُحرِّم ويُجرِّم (شرعنة) الأراضي المحتلة من قِبل (المحتل).. بـ(إعلان): (السيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان العربية السورية).. إلى جانب البنود التي تخص الأزمات السياسية العربية الأكثر اشتعالاً كـ(الأزمة اليمنية) والسورية والليبية، وأزمة التدخلات الإيرانية المستمرة في اليمن والعراق وسوريا ولبنان.. حتى يتمكن القادة والزعماء العرب في ظل هذه البنود المحدودة من التداول والتشاور في شأنها، واتخاذ أفضل القرارات وأصوبها تجاهها!!
ولكن كثرة البنود، وضيق الوقت (جلسة عمل واحدة لدراسة عشرين بنداً)! والتخاذل العربي الذي أصبح سمة من سمات معظم القمم العربية.. جعل من (البيان الختامي) للقمة في شأن (الجولان) خصوصاً وكأنه بيان استسلام لـ(قرار الإدارة الأمريكية) بـ(السيادة الإسرائيلية) على مرتفعات الجولان العربية السورية؛ فلم يزد البيان عن «استنكار» القرار ورفضه.. إلى جانب التشديد على عروبة الجولان!!
ولـ(الأمانة)!! فقد طالب البيان الختامي لـ(قمة تونس) المجتمع الدولي بعدم الاعتراف بـ(السيادة الإسرائيلية) عليها.. أما التقدم بشكوى لـ»مجلس الأمن» ضد القرار الأمريكي، والحصول منه مجدداً على تأكيد بـ(عروبة) الجولان، وعدم شرعية نزعها لصالح (المحتل) الإسرائيلي.. فلم يخطر على بال القمة أو على بال أمانة جامعتها، أو أمينها العام: السيد أحمد أبو الغيط..!!
* * *
على أية حال.. تراجَع وهج القمم العربية القديم، واختفت تلك السعادة التي كانت تغمر قلوب أبناء الأمة العربية من المحيط إلى الخليج مع كل دورة من دوراتها.. وهم يتابعون وقائعها ومجرياتها.. بل بياناتها الختامية، التي كانت تعبِّر - إلى حد كبير - عن آمال أبناء الأمة العربية وتطلعاتهم.. إلى أن جاءت القمة (الخامسة عشرة) التي عُقدت في منتجع (شرم الشيخ) في شهر مارس من عام 2003م، و «بغداد» تُضرب من الجو والبحر بـ(قاذفات وصواريخ) جورج بوش الابن.. بينما كانت تزحف جنود المارينز من بعض دول الجوار للاستيلاء على (العراق) وأمواله وبتروله ومتحف آثاره النادر.. ليظهر البيان الختامي لتلك «القمة».. مخيباً لكل الآمال العربية.. فلم يزد البيان عن (رفضه المطلق لضرب العراق، أو تهديد أمن وسلامة أي دولة عربية، ودعم صمود الشعب الفلسطيني)؛ لتكون تلك القمة وكأنها الحد التاريخي الفاصل بين عهدين من عهود القمم العربية: عهود القوة والمنعة، وعهود التراخي و «الاستخزاء».. فلا يبقى في ذاكرة السياسة العربية من تلك القمم غير عدد محدود منها: كـ(قمة الخرطوم الرابعة) في شهر أغسطس من عام 1967م بموقفها السياسي الحاسم، ودعمها المالي الضخم لإعادة بناء القوات المسلحة المصرية والأردنية.. الذي جلب - فيما بعد - أول نصر عربي على عدو الأمة التاريخي (إسرائيل) في أكتوبر من عام 1973م، والقمة العربية السابعة في الرباط في أكتوبر من عام 1974م، التي جرى الاحتفال فيها بقيام أول كينونة فلسطينية سياسية، هي: (منظمة التحرير الفلسطينية) بقيادة الزعيم الفلسطيني التاريخي الراحل ياسر عرفات، والقمة التاسعة في بغداد عام 1978م التي لم تعترف بـ(كامب ديفيد)، ولا بالصلح (الساداتي) مع الإرهابي (ليجين)، التي انتقل معها مقر الجامعة العربية إلى (تونس)، والقمة (الثانية عشرة) في مدينة فاس المغربية في سبتمبر من عام 1982م حيث قُدمت مبادرة الملك فهد للسلام لاختبار النوايا الإسرائيلية؟ لتعقبها في الأهمية مبادرة الملك عبد الله بن عبد العزيز لـ(السلام) في القمة الرابعة عشرة في بيروت عام 2002م، التي كشفت للعالم أجمع أن إسرائيل لا تريد (السلام)، ولكنها تريد (الأرض الفلسطينية) بكاملها؛ لتبقى بقية القمم العربية فيما بعد وكأنها قمم الحد الأدنى من آمال الأمة العربية وطموحاتها..!!