د.عبد الرحمن الحبيب
«روسيا جارتنا.. لن تذهب إلى أي مكان، نحن بحاجة لمحاولة تحسين العلاقات معها» هذا ما قاله ينس ستولتنبرغ الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) في خطابه أمام الكونجرس الأمريكي بمناسبة مرور سبعين عاماً على إنشائه، منبهاً بالوقت نفسه أن التهديد الروسي لا يزال قائماً، ومشدداً على ضرورة الدفاع عن «أنجح حلف في التاريخ».. لكن لرئيس أمريكا، قائدة الحلف، رأي مخالف.. فهل لا يزال الحلف ناجحاً رغم موقف ترامب منه؟
بهذه المناسبة، كتب وزير الخارجية الأمريكي بومبيو بلغة ترحيب باردة: «يشرفني الترحيب بحلفائنا في واشنطن، هذا العام نحتفل بالذكرى السبعين لتعاوننا الممتد على جانبي المحيط الأطلسي»، وقد استقبل بومبيو نظراءه يوم الأربعاء الماضي بمراسم متواضعة لم يلتف إليها الإعلام، ولا تكاد تجد صورة لهذه المراسم. فما هي درجة توافق دول الناتو مع أمريكا؟ قبيل هذه المناسبة نشرت مؤسسة غالوب استطلاعاً للرأي في دول الناتو الثمان والعشرين: هل توافق أو لا توافق على أداء قيادة الولايات المتحدة؟
الغالبية كانوا غير موافقين، ولم تزد نسبة الموافقين على غير الموافقين إلا في أربع دول بشرق أوربا، وهي: ألبانيا، بولندا، هنجاريا، رومانيا. وحتى بهذه الحالة كانت الموافقة نسبية لم تتجاوز 50 % عدا ألبانيا (69 %). وتدنت نسبة الموافقة في أهم دولتين عسكريتين وهما بريطانيا وفرنسا فكانت 26 % في كليهما.. أما ألمانيا فقد انحدرت النسبة إلى 17 % ومشابه لها إسبانيا.. حتى كندا جارة أمريكا التي كان يُنظر إليها كتابع لأمريكا بلغت نسبة عدم التأييد 79 % مقابل 16 % مؤيدين! الطريف أن أدنى دولة موافقة على الأداء الأمريكي هي النرويج (12 % فقط) ورئيس وزراء النرويج سابقاً هو أمين عام الناتو الذي استقبله الأمريكان ليُشرف على مراسم الاحتفاء بالذكرى السبعين.
ما هي الخلافات بين القيادة الأمريكية وبقية دول الناتو؟ يتصدر الاختلافات اشتراط أمريكي بتقاسم الأعباء بشكل أفضل، حيث تنفق أمريكا على الناتو 3.4 % من ناتجها المحلي بنحو 706 مليار دولار مقابل 61، 52، 51 مليارا لكل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا على التوالي. ويصر ترامب على وجوب رفع الحكومات لإنفاقها العسكري إلى 2 % من ناتجها المحلي بحلول عام 2024 كحد أقصى، مستهدفاً بالأخص ألمانيا البعيدة عن هذه النسبة مع توقع وصولها لأقل من 1.5 % عام 2024. ستولتنبرغ صرَّح «أتوقع من ألمانيا الالتزام بالتعهد الذي قطعته مع جميع الحلفاء الآخرين بالحلف الأطلسي»، لكنه أدان «السجالات العلنية حول تقاسم الأعباء داخل الحلف الأطلسي»، بإشارة لتصريحات ترامب محذرا بأنها «تثير البلبلة بوقت تختبر روسيا وحدتنا مراراً وتكرارا».
ثمة إشكالية أخرى، فمنذ انهيار الاتحاد السوفييتي وزوال خطره المباشر على أمريكا صار توجه الرأي العام الأمريكي وساسته؛ ينأى تدريجياً عن التناغم مع السياسات الأوروبية، معطياً الأولوية للأهمية الاقتصادية مع دول شرق آسيا، والمخاطر الأمنية من روسيا والصين. وتفاقمت الحالة مع الإدارة الأمريكية الحالية التي ترى أن القارة الأوروبية «العجوز» أصبحت عالة عليها في الناتو الذي تم صياغته آنذاك تحت تأثير الخشية الأمريكية من الخطر السوفييتي خلال الحرب الباردة. لذا يرى البعض أن الخطر الأساسي هو من الصين وليس من روسيا.. فثمة بوادر حرب باردة جديدة مع الصين نتيجة توترات تجارية وعسكرية وإيديولوجية وتكنولوجية.
كما تشهد الأجواء مشاحنات حادة بين الإدارة الأمريكية وبعض دول الناتو.. مثل دعوة ماكرون لتشكيل «جيش أوروبي» موحّد ومستقل للحماية من «الصين وروسيا وحتى الولايات المتحدة»؛ مما أثار غضب وسخرية ترامب الذي غرد: «ماكرون يقترح بناء جيش أوروبي لحماية أوروبا من أمريكا والصين وروسيا مع أن ألمانيا هي التي كانت مصدر التهديد بالحربين العالميتين الأولى والثانية. كانوا قد بدأوا يتعلمون الألمانية في باريس قبل وصول الولايات المتحدة».
آخر الإشكالات كانت مع تركيا حول شرائها لمنظومة صواريخ «إس 400» الروسية، واحتج الأمريكان بأنها لا تتوافق مع مقاتلات «إف 35» التي تنوي تركيا شرائها من واشنطن، لافتين إلى أن موسكو قد تستخدم هذه المنظومة لجمع معلومات استخباراتية عن المقاتلة؛ وقال مايك بنس، نائب الرئيس الأمريكي إن بلاده «لن تقف مكتوفة الأيدي بالوقت الذي تشتري فيه دولة عضو بالناتو أسلحة من خصومنا». وعمدت واشنطن عشية الاحتفال بالذكرى السبعين إلى تشديد ضغطها على أنقرة، وأوقفت تسليمها مقاتلات «إف 35» وأي عمليات مرتبطة بها.
هل شاخ الناتو بذكرى ميلاده السبعين؟ المبدأ الأساسي الذي قام عليه هي المادة الخامسة من ميثاقه التأسيسي التي تنص على أن «أي هجوم على أي من الدول الأعضاء يعدُّ هجوماً على جميعها»، ملزماً الحلفاء بالوقوف بجانب أي دولة منها تتعرض لعدوان خارجي. هذه المادة لا تزال موضع احترام، إنما مستقبل الناتو يبدو غامضاً فغالبية قادة الفكر والمؤسسات بأمريكا يرون أن الناتو كان مؤسسة مهمة خلال الحرب الباردة ولكنه بعدها صار أحياناً قوة مدمرة يتوسع شرقاً بلا نهاية وبشكل غير مدروس.. أما الاحتفال الذي يبدو بائساً بذكرى سبعين عاماً على إنشاء الناتو فلها أكثر من دلالة على غموض مستقبله إن لم يكن ذبوله.