د.عبدالله مناع
عاشت «المدينة المنورة» مساء يوم الثلاثاء -ما قبل الماضي- عُرساً ثقافياً فريداً من نوعه.. بمناسبة: (حفل توزيع «جائزة أمين مدني» للبحث في تاريخ الجزيرة العربية).. في دورتها (البينالية) السابعة، لم تعهده احتفالاتنا الثقافية باختلاف أنواعها من قبل.. في أيّ من مدن المملكة.
فقد امتلأ (الحفل) بالكثير من المتغيرات والمفاجآت البهيجة.. التي كان في مقدمتها: استضافة الأمير فيصل بن سلمان - أمير منطقة المدينة المنورة - للحفل في مقره بـ(حي سلطانة)، وكان ثانيها: التئام حضور الحفل من المثقفين والمثقفات والأكاديميين والأكاديميات والضيوف.. في قاعة واحدة!! ليستمتعوا -معاً- بفقرات الجانب الثقافي من الحفل المتمثل في كلمات وقصائد المعنيين بـ(الجائزة) والمشرفين عليها علمياً وإدارياً والفائزين بها.. بدءاً من كلمة رئيس اللجنة العلمية لـ(الجائزة) الأستاذ الدكتور سعد الراشد.. إلى كلمة الراعي الأدبي لها رئيس نادي المدينة المنورة الأدبي الأستاذ الدكتور عبدالله عبدالرحيم عسيلان.. إلى كلمة (محرك) الجائزة وصاحب «فكرتها» وانطلاقاتها: أمينها العام.. الصديق العزيز الأستاذ إياد أمين مدني، الذي ذكَّر الحضور في كلمته الحضور -وخيراً فعل- بـ(أسباب) انطلاقتها.. فقد بعد العهد بتلك الأسباب بعد مرور أكثر من أربعة عشر عاماً على عام انطلاقة حفل الجائزة الأول عام 1414هـ - 1994م، وهو يقول في كلمة بـ(إن الجائزة لم تنطلق كضرب من ضروب البر بالوالدين الذي قضى به المولى -عز وجل-، ولكنها انطلقت أيضاً بتلك القناعات والرؤى التي أنفق أمين مدني سنوات عديدة من عمره وفكره وجهده ليؤكد عليها من خلال تلك الصلة الوثيقة بين الدراسات الثقافية والتاريخ وبداياته، فالدين واللغة والخطوط والشعر والنشاط الاقتصادي.. كلها من علامات «التاريخ»، ولا يمكن لأمة أن تبدأ تاريخها ما لم تكن متمدينة: (ذات دين ومجتمع)، (كذلك قناعاته العلمية بأسبقية شبه الجزيرة العربية في صنع حضارة الإنسان، وحثه منذ أكثر من نصف قرن على البحث والكشف الأثري لتبديد الظلمة التي تحيط بتاريخ الجزيرة العربية في ماضيها القديم).. ليتواصل الحفل الثقافي بـ(كلمتي) الفائزين مناصفة بجائزة هذا العام، وهما: الأستاذة الدكتورة دلال خالد الحربي -أستاذة التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن- من المملكة.. عن بحثها التاريخي الفريد عن (دور المرأة القيادي والاجتماعي في تاريخ وثقافة الجزيرة العربية)! والأستاذ الدكتور: المبروك محمد الباهي.. التونسي الأصل والأستاذ بجامعة الملك عبدالعزيز بـ(بحثه) عن (عالم البحر الأحمر.. تاريخ عالم أكثر من بحر)!! ليشاهد حضور الحفل -فيما بعد- فيلماً تسجيلياً عن الجائزة والفائزين بها في دوراتها السابقة.
لكن الحفل الخطابي.. لما ينته عند هذا الحد، فقد أضاف له مضيف الحفل الأمير فيصل بن سلمان.. كلمة استهلها بـ(الإشادة) بـ(فكرة) إطلاق أسماء رواد الثقافة والمعرفة على الجوائز الأدبية والثقافية.. على أن لا ثقف عند أولئك الذين -رحلوا منهم-، بل تمتد لمن كانوا مثلهم في خدمته دينهم ووطنهم من الأحياء، وبحكم موقعه رئيساً لمجلس أمناء مركز أبحاث المدينة المنورة فقد قدم اقتراحاً لا يقل بنالةً عن استضافته لحفل الجائزة: بإطلاق جائزة للبحث في تاريخ المدينة الحديث باسم نزار عبيد مدني وزير الدولة للشئون الخارجية الأسبق.. لتصيح القاعة بالتصفيق تقديراً لـ (مقترح) سموه.. ليقوم جميع الحضور بعدها إلى موائد (العشاء)، الذي قال عنه حضروه: إنه كان (حاتمياً) بأعلى درجاته.
***
لقد استوقفني البحثان إعجاباً بـ(موضوعيهما) وبتكامليتهما في بحثين يتعلقان بـ(تاريخ الجزيرة العربية)، وكان إشفاقي مضاعفاً على الأستاذة الدكتورة دلال الحربي وهي تعد بحثها عن (دور المرأة القيادي والاجتماعي في تاريخ وثقافة الجزيرة العربية) في القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين.. لصعوبة المراجع وندرتها وربما غيابها بالكامل.. في مجتمع لم يكن يحفل بالمرأة في عمومه.. وإن كان لي وأمثالي حظ من المعرفة -على المستوى الشخصي- ببعض تلك الأدوار القيادية والاجتماعية التي عاشتها المرأة في تلك المرحلة.. لتفاجئنا الدكتورة دلال الحربي بعد تسلمها (الجائزة) كأول سيدة تحصل عليها.. بأن قلة المراجع والمصادر شكلتا المحور الرئيسي لكلمتها الجميلة التي ألقتها بعد تسلم الحائزة في ذلك العرس الثقافي.. عندما قالت: (كان المشوار طويلاً ومليئاً بالمشاق.. نظراً لعدم وجود مواد جاهزة، فالأخبار عن المرأة والإشارات إليها متناثرة في ثنايا (الكتب)، والوثائق بعضها لا يتعدى بضعة أسطر، وأخريات ترد في إيجاز واختصار، وكان علىَّ أن أبذل جهدي في الحصول على المعلومة.. ببحث أدق وأوسع.. فقرأت وتعبت، وبحثت وسجلت روايات شفوية، وزرت مكتبات، ودور وثائق.. كل ذلك في سبيل أن أدون تاريخاً للمرأة في المناطق التي تكونت منها المملكة العربية السعودية في تاريخها الحديث والمعاصر).. ويبدو أنها فعلت ذلك بأعلى المستويات.. لتكتب بحثها وتفوز بـ(جائزة أمين مدني - للبحث في تاريخ الجزيرة العربية).
أما الأستاذ الدكتور المبروك محمد الباهي.. ابن الجامعات الغربية والعربية والأستاذ بجامعة الملك عبدالعزيز و(التونسي) الأصل.. فقد كنت أغبطه لكثرة المراجع التي سيجدها بين يديه في موضوع بحثه عن (البحر الأحمر.. تاريخ عالم أكثر من بحر)!؟ فقد بدأت سنوات مجد هذا البحر وحضوره العالمي الطاغي مع افتتاح قناة السويس.. ليعيش البحر الأحمر مجدداً.. في قلب أحداث الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918م)، التي قادتها كل من بريطانيا وفرنسا ضد ألمانيا ورجل أوروبا المريض كما كانوا يسمون الخلافة العثمانية في إسطنبول آنذاك.. ليكتب عنه المؤرخون والساسة والعسكريون والبحارة، ولذلك فقد كانت كلمته عن البحر الأحمر بعد تسلمه النصف الثاني من (جائزة أمين مدني للبحث في تاريخ الجزيرة العربية).. تمثل غنىً معرفياً واسعاً، تمثل في قوله: (إنه بحر جاذب للإستراتيجيات المتنافسة ماضياً وحاضراً وسيظل كذلك! إنه بحر مُمتلك من سكانه، ومجاله حيوي لهم في التواصل والمعرفة بأوضاعه الملاحية.. إنه بحر يرمي بتأثيراته بعيداً عن سواحله.. في البرين: الإفريقي والعربي.. إنه بحر تاريخه هو تاريخ عالم وليس مجرد ممر مائي.. إنه بحر وضع الإنسان حوله هوية خاصة بتقاليدها وثقافتها المتميزة.. ولكنها هوية متطورة ومنفتحة على الجهات الأربع.. إنه بحر تاريخه هو تاريخ عالم، وليس مجرد ممر مائي ساكن وبارد)!.
لقد قدم الاثنان الأستاذة الدكتورة دلال، والأستاذ الدكتور الباهي.. بحثين جديرين بالتقرير وبالفوز بجائزة أمين مدني للبحث في تاريخ الجزيرة العربية.
***
وإذا كنت لم أعد أذكر مفصلاً.. (المواضيع) التي طرحتها اللجنة العلمية لـ(جائزة أمين مدني للبحث في تاريخ الجزيرة العربية) خلال دوراتها السابقة.. إلا أن هذين البحثين عن (دور المرأة) و(البحر الأحمر) اللذين اقترحتهما اللجنة العلمية لدورة هذا العام يستوجبان شكراً مستحقاً لـ(اللجنة) ورئيسها الأستاذ الدكتور: سعد الراشد.. لشدة التصاقهما بالبحث في تاريخ الجزيرة العربية، وهما ما يدعواني -على الجانب الآخر-.. للتوجه إلى اللجنة العلمية ورئيسها.. برجاء الاستمرار في هذا النهج التكاملي لـ(مواضيع) الجائزة، لنفوز في النهاية بـ(تاريخ) موثق حقيقي لشبه الجزيرة العربية.. يرد على المتطاولين على «علم» التاريخ.. والمشككين في مصداقيته.. آملاً.. في ذات الوقت «تصدير» وقائع هذا العرس الثقافي الفريد.. لبقية مدن المملكة.