د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
التسامح جبلة العقلاء والأقوياء وينبع من سماحة النفس، وسعة الأفق وتقبل الآخر، أما الاستسماح فهو أن تطغى على سلوكك تجاه الآخر صبغة اعتذارية لإدراكك أنك ارتكبت خطأ بحقه. والتفريق بين هذين المفهومين مهم جدًا في علاقتنا مع الآخر، والآخر هنا هو غير المسلم وعلى وجه الخصوص الآخر الغربي الذي تمر علاقتنا به بفترات اهتزاز جراء ممارسات بعض المتطرفين الذين يمارسون العنف باسم الإسلام، كثير منهم نجهل كيف ظهروا أو من جندهم مثل القاعدة وداعش. القاعدة أسهم الغرب نفسه في تأسيسها وتقويتها وحارب إلى جانبها الاتحاد السوفيتي عدوه الأول وعدونا بالنيابة. أما داعش فهي ظاهرة العصر الاستخباراتية السحرية التي نجهل حقيقتها كمسلمين شرقيين حيث تحركها مخابرات خارج حدودنا بالمال والتدريب من دول تتهم الإسلام بالإرهاب.
علاقتنا مع الغرب المسيحي، الآخر الأساسي بالنسبة لنا في هذه المرحلة قديمة وممتدة. فنحن كنا الآخر المخيف بالنسبة له، ولم تكن علاقاتنا قط جميلة صافية معه بل كانت علاقة مغايرة وتنافس، وجدل فكري ووجودي منذ ظهر الإسلام حتى يومنا هذا. نحن، رغم ضعفنا العسكري والاقتصادي والعلمي الحالي، نشكل البعبع الحقيقي لهذا الغرب لأن نشكل تهديدًا فكريًا وأخلاقيًا ووجوديًا له. فنحن دينيًا موحدون مثله ولكننا نخلوا من نقاط ضعف فكرية في تاريخه وتكوينه. نحن جغرافيا منبع هويته الدينية، فهويته الدينية والتاريخية وصلته عن طريقنا: الأناجيل المختلفة المتداولة أساسها سرياني، ومسيحيو الشرق بعضهم حارب مع المسلمين ضد الكنيسة الرومانية بسبب وحشيتها وبطشها واستعبادها للبشر. ولم يقتصر ذلك على الدين فقط، بل إن أصول الغرب الأسطورية والفلسفية المتمثلة بالفلسفة اليونانية التي يفتخر بها ورثها عنا وليس عن الإغريق مباشرة.
والغرب المسيحي يدرك موضوعًا خطيرًا جدًا بالنسبة له وهو أن الإسلام تمدد بسرعة وسهولة في آسيا وإفريقيا وأوروبا ذاتها. تمدد بالحد الأدني من القوة والحد الأعلى من الإقناع والتسامح. المسلمون حافظوا على معظم معالم المسيحية الحضارية ومعظم دور عبادتها. وهذا يجعل باب الإسلام مفتوحًا للعودة في أي وقت وبزخم كبير. فالغرب المسيحي لا يخشى الإسلام عسكريًا واقتصاديًا وهو ممعن في تدميره وتدمير كل مقوماته وشواهده الحضارية كما حدث في العراق وسوريا وغيرها حيث تشهد الأحداث على انتقام حضاري غير مسبوق. وملاحظ أن من أمر بهذه الحروب ومن خطط لها ونفذها هي شخصيات مسيحية متطرفة كآل بوش، وتشيني، ورامز فيلد، وتوني بلير وغيرهم.
والغرب يفعل ذلك وهو يدرك أن زرع كيان صهيوني متطرف في قلب العالم الإسلامي ليس ضمانًا مستقبليًا له من تمدد الإسلام. لأن الإسلام لا يتمدد عسكريًا واقتصاديًا وإنما يتمدد فكريًا وعقديًا. فالكنائس المسيحية متفرقة ومتناحرة، والغربيون يبحثون عن الروحانيات في كل مكان: البوذية، الهندوسية، التاوية لعدم قناعتهم فعلاً ليس برسالة المسيح، بل بممارسات الكنائس، ومن هنا يأتي الخوف من الإسلام كبديل جاهز. وعمليات القتل التي حدثت في نيوزبلاندا وغيرها للمسلمين صادرة في عمقها من خوف عميق من الإسلام كبديل للضياع الروحي للغرب. ولذا ليس من المستغرب أن بعض ممن ارتكبوا أعمالاً مشينة في حق الإسلام سارعوا بالدخول فيه. ويبقى هنا دور الديانة الأخرى الكبرى الموحدة وهي اليهودية فهي تلعب دور المحرض في هذا الصراع بما تملكه من مال ووسائل إعلام.
ولذا فعلينا أن نوازن علاقتنا مع الغرب لتأخذ طابع التسامح وليس طابع الاستسماح. علينا أن نقلب المجن على من يتهمنا بالإرهاب باتهامه بإفساد الدين الإسلامي بتحويل أفراده إلى إرهابيين، فإعلامه ومخابراته هي السبب الأساس في إذكاء الإسلام المتطرف. فالدول الإسلامية لا تملك القدرات التي تستطيع تحويل بعض المسلمين إلى إرهابيين بالنجاعة ذاتها. البريطانيون من أوائل سنوات التحرر العربي من الحكم العثماني أسسوا حزبًا سياسيًا، أو ربما أحزابًا سياسية إسلامية هدفها تجييش الإسلام سياسيًا، والأمريكان استنهضوا الدين عامة في عهد ريجان ضد الإلحاد ورموا بمسلمين مجيشين عقديًا في حلق الاتحاد السوفيتي، وجندوا عشرات الميليشيات الكاثوليكية في أمريكا اللاتينية ضد حكومات التحرر الوطني بحجة محاربة اليسار غير- الديني في نيكاراغوا، وتشيلي، وكولومبيا، والسلفادور والإكوادور وغيرها. والعجيب أن هناك حزبًا سياسيًا عامًا للإخوان الكاثوليك يعمل في عرض القارة الأمريكية الجنوبية وطولها.
أنشأنا مراكز كثيرة للتسامح الديني، وأرسلنا وفودًا عديدة للغرب المسيحي، واستقبلنا وفودًا أخرى ولكن الغرب المسيحي مع الأسف فهمها على أنها نوع من الاستسماح، أي طلب السماح، وليس التسامح. وما دام الوضع لم يتغير ومخاوف الغرب العميقة لم تتغير، فعلينا تغيير مقاربتنا لهذا الموضوع، فالتسامح يتطلب طرفين يتحركان بخطين متوازيين لترسيخ قيمه.