د. حسن بن فهد الهويمل
من الكتبة من يتسطح على [الصراع الفكري] زمن (العمالقة)، ويصدر أحكاماً لا تمت بصلة إلى جدلية المرحلة المتشبعة، والمتشعبة، والمتداخلة، والعميقة. ويرى أنه باطلاقاته الفجة يحسم المواقف، ويكبح جماح المشاهد, وأنه يأتي بما لم تستطعه الأوائل.
زمننا المعاش كسنبلة أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة، بل هناك أضعاف الظواهر، والأفكار الصارخة التناقض.
لقد جاءت [حملة نابليون] كما [طوفان نوح] فار فيها تنور الأفكار، ولم ينج من الغرق إلا من ركب السفينة التي تمثل في تاريخنا الحديث الاستنارة بنور المشكاة، التي فيها مصباح, شجرتها لا شرقية, ولا غربية.
لقد هبت رياح الشرق المادي الإلحادي، والغربي الصليبي [البراغماتي]، وتداخلت الأصوات، واختلطت الأوراق, وتشابه المفكرون على المتابعين، كما تشابهت البقر على بني إسرائيل.
فَمِن [قومي] ينفي كل انتماء. إلى [علماني] ينفي كل دين. ومن [مستغرب] يتنكر لكل عربي. إلى [عروبي] يرفض كل جديد، أو تجديد.
الفكر العربي الحديث لا يخلو من دخن المذاهب المعاصرة الملتبسة بالصراع الفكري العالمي، بصليبيته، وماديته، والحاديته، وعقلانيته المتحررة من كل نص.
لا أريد للمتصدرين للرأي العام أن يتقحموا المشاهد ببضاعة مزجاة، تطيل أمد التيه، والتخبط، وتكشف عن جهل معتق، ولجاجة خنفسائية.
التاريخ الفكري الحديث متلبس بمناهج، ومذاهب, وتيارات لا تمت بصلة إلى الفكر الإسلامي السليم. وإن تداخلت معه فيما هو إنساني محض.
ودخول الخليين في الصراع يعطي صورة مهزوزة، مخجلة عن مفكرينا المتمكنين الذين صمتوا, لأنهم يتحامون الدخول في لَجَاجَاتٍ غير متكافئة، وكرهوا [المراء] وإن كانوا صادقين.
الحركة الفكرية المعاصرة تمد بسبب لكافة الاتجاهات الفكرية الغربية، والشرقية. فهي لم تكن كما أريد لها ( لا شرقية, ولا غربية), والذين يتكئون على محصولهم الضحل، يكشفون عن مدى مبلغهم من المعرفة, والتجربة.
أذكر معركة أدبية فكرية كان [أحمد الشيباني] - رحمه الله - طرفاً فيها. ولأنه درس الفكر الألماني بلغته، وتضلع منه، وتمكن من مناحيه، وامتدت عينه إلى سائر المفكرين الغربيين في ألمانيا، وفرنسا، وسائر الدول الأوروبية. فقد كشف عن ضعف بعض خصومه، إذ حاصر الضعفاء منهم، وأحرجهم.
قضايا الفكر، والمناهج الأدبية لا تصلح فيها اللجاجة، ولا الادعاء. وبخاصة حينما يكون الطرف الآخر متمكناً من الفكر المعاصر بلغاته.
نقاد [المغرب العربي] - على سبيل المثال - متمكنون أمكن من المستجدات الأوروبية، أدباً، وفكراً، لأنهم درسوها بلغاتها، وتلقوها على مُنْشئيها الذين نَظَّروا لها، ومارسوا التطبيق من خلالها. ولهذا جاءت نقولهم أدق، وأوفى، ودراساتهم أشمل، وأعمق، وتنظيراتهم أوسع، وأصوب.
وعليهم تلقى جيلُنا الدرس، لأننا ممن حرم تعلم أي لغة أجنبية. حتى الذين خدمتهم الظروف، وهيئت لهم البعثات، لم يكن البعض منهم خيراً ممن لزم حصيره، واكتفى بموروثه.
مشاهد السياسة، والفكر، والدين مَزَلةَ أقدام، ومضلة أفهام. الداخل فيها مفقود، والعائد منها مولود. لأنها مليئة بالعلماء الذين ضلوا على علم، وأضلوا بقصد. وبالعملاء الذين يحرفون الكلم من بعد مواضعه، وبمتعصبة المذاهب، والطوائف، والأحزاب الذين يبحثون عن الانتصار لانتماءاتهم.
ولو جاءتهم الحقيقة كما فلق الصبح، لقالوا:- {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ}
هذه المشاهد يتدافع إليها أنصاف المتعلمين، والمثقفين بلا تجربة، وبلا حذر. وظنهم الذي أرداهم يصور لهم أن مجرد القدرة على الكلام، والكتابة الإنشائية كافية لمواجهة (الصراع الفكري)، و(السياسي)، و(الديني)، والخوض في لججه.
قد ينبري من يملك القدرة على الحجاج، والمنازلة ليقول: إننا بما نقول لسنا محطمين، ولا مخذلين، ولا مخبلين، وأن من حق المقتدر أن يسهم بما يقدر عليه دفاعاً عن حوزات الدين، والوطن، وسائر المثمنات.
اعتراضي ليس ضد كل متصدٍ للخصوم. فالدفاع عن الحوزات واجب. والوطن بأبنائه، والدين بعلمائه، ولكن اعتراضي على الفارغين الذين يهتاجون، وهم عزل من كل الإمكانيات على حد:
[وَلَسْتُ بِعَلٍّ شَرُّه دُونَ خَيِرِهِ
ألَفَّ إِذَا مَارُعْتَهُ اهْتَاجَ أَعْزَلاً]
ما أكثر الفارغين على أرض الواقع الذين يسيئون ولا يحسنون، ويضرون ولا ينفعون.
أمتنا تعيش واقعاً عصيباً تختلط فيه الخطابات، وتتعدد الاتجاهات، وتتعارض المصالح، وتشتد الحروب الكلامية التي تمهد لحروب عسكرية ضروس، تهلك الحرث، والنسل.
هذه الظروف المضطربة، والمتداخلة تحتاج إلى قدرات استثنائية، وتخطيط سليم، وتقويم للكر، والفر. والإقدام، والإحجام.
وما نشاهده من انكسارات موجعة دليل على الاهتياجات غير الموزونة. وما لم نحسب للمرحلة العصيبة حسابها, فسوف نفقد ما بقي، وهو نزر قليل.
لا نريد الصدام، ولا الأثرة. نريد الاحتواء، أو التحييد على الأقل. خطاب الضعف يختلف عن عنتريات القوة، والعدو الواحد أهون من عشرات الأعداء الذين يتربصون بأمتنا الدوائر.
دعونا نفكر في تحيز يبقي، أو تحرف ينجي. ولن تتحقق السلامة حتى نُعِدّ للخروج، والمواجهة عدتها: {وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ}.