ابتعاد الجار عن جاره.. ظاهرة دخيلة على مجتمعنا السعودي.. ومرضًا اجتماعيًا تتسع دائرتها المظلمة بين أفراد المجتمع وتنمو أآثاره وعلله يومًا بعد يوم حتى وصلت إلى عجز شبه تام وضمور في العلاقة بين الجيران.. بل إن البعض -مع الأسف- يسكن بجانب جاره لسنوات عدة ثم يرحل وهو لا يعرف جيرانه ولم يعرفوه..!! والبعض لا يرى جاره إلا في مناسبات العزاء أو الزواج فقط، مع إن الإسلام اهتم بحسن الجوار لتحقيق مبدأ التكافل الاجتماعي الذي له الأثر العظيم في بناء مجتمع سليم متماسك يسيطر عليه مناخ الألفة والمحبة والأمان والتواد.. إلا أن روابط الجيران وتماسكها «اليوم» تغيرت كثيرًا في مكوناتها الأخلاقية واتجاهاتها السامية ومنطلقاتها النبيلة.. وذلك باختلاف الزمان والمكان.. ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة في حسن تعامله مع جيرانه حتى مع غير المسلمين..! ونستشهد في هذا السياق الأخلاقي بحديث الصحابي الجليل أنس بن مالك -رضي الله عنه-: قال في سياق أهمية الجار ومكانته في الإسلام: «كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه عليه الصلاة والسلام يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: «أسلم» فنظر إلى أبيه فقال له: أطع أبا القاسم فخرج النبي عليه الصلاة والسلام وهو يقول الحمد لله الذي أنقذه من النار».. وهذا الموقف النبوي النبيل يؤكد حقوق الجار التي عنت به الشريعة الإسلامية الغراء وبحقوق الجار سواء كان مسلمًا أو غير مسلم. ويكفي أن القرآن أوصى بالإحسان إلى الجار فجاءت آيات تحث وتحض على هذا الجانب في قوله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا ، ولا ريب أن مفهوم «حقوق الجار» الذي توارثه الآباء والأجداد على مر السنين لم يعد له حضورًا في مضمار نسيجنا الاجتماعي في واقعنا المعاصر.. كما كان في الماضي الجميل، مع تفاوت هذه الأزمة الاجتماعية الأخلاقية باختلاف البيئة من المدينة الحديثة والتحضر الصناعي.. إلى القرى والهجر، وكما أشار عالم الاجتماع الشهير (دوركايم) في نظرية التضامن الاجتماعي.. حيث أكد أن في المجتمعات الصغيرة والتقليدة والقرى يكون تضامنها الاجتماعي قويًا ومتماسكًا، وروابطها متينة وأطلق على هذا النوع من التضامن (التضامن الميكانيكي)، بينما في المجتمعات الحديثة والمتحضرة صناعيًا يكون تضامنها الاجتماعي واندمج أفرادها (معّقدة) وغير متجانس وأقل من التضامن الميكانيكي وأطلق عليه اسم (التضامن العضوي)، ومن أهم أسباب تفاقم هذه الظاهرة المجتمعية.. ابتعاد الإِنسان المسلم عن القيم الإسلامية الداعية إلى الإحسان بالجار وترسيخ حب الجيرة والامتثال بالوصية المحمدية في هذا الاتجاه الاجتماعي الأخلاقي، كما أن معظم أفراد المجتمع السعودي اتجهت بوصلة اهتماماتهم بالبحث عن المصالح والحياة المادية التي طغت على كل شيء وتحسين أحولهم المعيشية وتناسوا قيمة وأهمية ووجبات «حقوق سابع جار» وتأصيل العلاقة مع الجيران كما حثنا عليه ديننا الإسلامي الحنيف، ومن الأسباب أيضًا ثورة المعلومات والانفجار التقني في قالبه العولمي وإرهاصاته الثقافية.. وما حملته هذه الثقافات المستوردة في طياتها من اتجاهات فكرية وسلوكية (وافدة) تمّجد وترّسخ مفهوم الانعزالية في النسيج الاجتماعي.. أسهمت في تأزم حقوق سابع جار، والتعامل مع الجيران بطريقة رسمية تفتقد بالطبع للعلاقات الاجتماعية المبنّية على التعاون والتكافل والمحبة والوئام والتضحية والقيم الوفائية، فمع دخول الإنترنت والهواتف الذكية بتقنياتها العصرية التي أصبحت جزءًا مهمًا من حياة الكثير من الناس.. ابتعد الجار عن جاره وانشغل في عالمه الافتراضي بما لديه من أجهزة وتقنيات بل إن كثيرًا منهم قد تأثر بما يشاهده من مسلسلات وأحداث فضائية ترويجية مناهضة للقيم والفكر والوعي، وبالتالي صار يطبقها على أرض الواقع.. الأمر الذي أسهم في تراجع أسهم الزيارات والتواصل بين الجيران في صالة (الحياة المدنية) ومتغيراتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية.. أما أبرز الحلول الناجعة لعلاج هذه ظاهرة المجتمعية السلبية.. تبني حملة وطنية إستراتيجية من المؤسسات الدينية بعنوان: (سابع جار) تهدف لتوعية المجتمع بعامل مهم من عوامل تماسك نسيجه الاجتماعي، فالجار عنصر مهم في البناء الاجتماعي وله دور مجتمعي وتربوي وقيمي ووجداني فعال للأسرة والأبناء.. يشاركهم في أفراحهم وأتراحهم، فضلاً عن تجّسيد الوصية النبوية في حق الجار وإجلاله. كما أن منابر المساجد وخطب الجمعة لها دور مفصلي في تنوير المجتمع بحقوق الجار.. وطبقًا لإحدى الدراسات ااجتماعية أثبتت معطياتها العلمية إن خُطب الجمعة تأثيرها أقوي من تأثير الإذاعة والتلفاز في إيصال المضمون والتوجيه للأفراد وتنوير الفكر..، كما أن مؤسسات التنشئة الاجتماعية الأخرى.. مراكز الأحياء والمدارس ووسائل الإعلام المختلفة لها دور فاعل وبارز في تعميق مفهوم (حقوق الجار) ونشر ثقافته الواعية، وأخيرًا وليس آخر يمكن تدعيم العلاقات الاجتماعية «المفقودة» بحق الجار عن طريق إيجاد «مجالس جيرة» في كل حي لتنظيم اللقاءات الحبية والودية بين الجيران.. والارتقاء بمبدأ حسن الجوار الذي تنعكس آثاره النبيلة، واتجاهاته الإيجابية على تماسك وتضامن ووحدة المجتمع.