د.فوزية أبو خالد
هذا مختصر محاضرتي بجامعة جورج تاون بواشنطن دي سي بقسم الدراسات العربية والإسلامية أمس.
وفي بدايتها أعترف أن الشاعر حاتم الزهراني وقسمه والمبادرة العالمية للشعر قدموا لي هديتين من رفيف الأجنحة.
الهدية الأولى هي دعوتي إلى هذه الجامعة التي طالما ارتبطت بها معرفيًّا بباقة من أساتذتي وبحوثي العلمية.
الهدية الثانية هي رابط مقالة علمية قام بنشرها يوم 30 مارس 2019م على موقع العربية نت الإنجليزي، وكانت بعنوان ومحتوى مثير لشهية النهمين للجمال والجدل مثلي، «الحداثة بالسعودية: عهد جديد من التنويرالثقافي»
Modernists in the new Saudi Arabia: A new era of cultural enlightenment
فهالتني بكم الهواجس العلمية والأدبية المشتركة دون أن يطغى ذلك على ما أعيشه من قلق الأسئلة وأرقها كأي باحث بعض من شرف مهنته التكلف بالأسئلة.
في مقال تفاؤلي يراجع الزهراني مرحلة مفصلية من مراحل تطور الأدب الحديث بالمجتمع السعودي وهي ما عرف بمرحلة (الصحوة) وسماها بالإنجليزية Awaking مشيراً إلى التعطيل الذي ألحقته بتطور مشروع الحداثة الأدبية والشعرية وبرموزها الشعرية والنقدية، مقابل ما يظهر من إعادة اعتبار للثقافة المعاصرة بحسب الزهراني ورموز الحداثة سابقا كنشر وزارة الخارجية مؤخرًا على موقعها الإلكتروني سيرة الشاعر محمد الثبيتي ونماذج لقصائده, هو الذي مات ولم ينل من مجده الشعري المستحق إلا الملامات والحجب.
لقد حفزني المقال كشاهدة عاشت حالة الصحوة ومقاومتها أن أجعل (مقترح تناول حركة الشعر الحديث في نصف قرن كموضوع لمحاضرة اليوم) حديثا يتسع لتناول الإطار الموضوعي الذي ولد على أرضيته الشعر الحديث، أي الحركة الثقافية بالمجتمع السعودي. وهذا يشمل سؤال الأدب نثرا وشعرًا وفكرًا. لقد سبق وجرى تناول حركة الثقافة بمجلة النص الجديد إبان صدورها (1993 - 2006) والكتابة تحديدًا عن أوجه مد وجزر الحركة الثقافية وأزمة تعالقها مع مرحلة الصحوة. وهناك أيضًا بعض مما سجلت بواكير نذره الأولى الأكاديمية صديقة عريبي في كتابها (النساء والكلمات) (women and words) في رصد تحليلي لمواجهة المرأة كاتبة وشاعرة بالمجتمع السعودي.
غير أنه إذا يصعب تناول الحركة الشعرية دون الحديث عن إطارها الموضوعي, فإنه لا يمكن أن تتضح طبيعة الحركة الثقافية بدون تقديم تعريف إجرائيٍّ لمفاهيم المصطلحات «المفتاحية» المصاحبة بهدف مقاربة تمثلاتها الذهنية والسلوكية. وأبرزهما، مفهوم مصطلح الصحوة ومفهوم مصطلح الحداثة. وإن كنت في هذا المختصر أكتفي بتعريف الحداثة.
مفهوم الحداثة
لا أظن أنني أحتاج لتعريف الحداثة نظريًّا خصوصًا في عصر ما بعد الحداثة فأكتفي بتعريفه الإجرائي بالطريقة التي جرى بها داخل الحركة الثقافية السعودية من ناحية وبالطريقة النقيضة التي حُرف فهمها من قبل القوى الكارهة لها.
مفهوم الحداثة عند الكتاب والشعراء المجددين
عنت التجديد في الشكل والمحتوى والموضوع لجميع أشكال الأدب نثرًا وشعرًا ففي الشعر مثلا خرج الشعراء بداية من جيل السبعينات على كتابة القصيدة العامودية الفراهيدية المقفاة وعلى الأغراض الشعرية التقليدية الحكر على الفخر والمدح والرثاء والغزل وعلى الروح الفحولية لذلك الشعر, وبدؤوا في كتابة ونشر قصائد التفعيلة المجددة لاستخدامات بحور الشعر وعروضه متماهين مع الحركة الشعرية الحديثة في بلاد الشام, إضافة إلى تماهيهم مع مد الشعر الحديث في العراق ومصر متمثلا في ريادة نازك الملائكة وبدر شاكر السياب لقصيدة التفعيلة/ العراق وصلاح عبدالصبور وحجازي وأمل دنقل/ مصر. ومن ناحية أخرى تماهى الشعر السعودي الحديث مع مد شعر المقاومة الفلسطيني ومن أبرز رموزه فدوى طوقان، سميح القاسم ومحمود درويش آنذاك. مع تقارب ذلك زمنيًّا وأشكالا شعرية حديثة في الخليج مع حركة الأدب والشعر الحديث بالبحرين ومن رموزها الشعرية وقتها قاسم حداد حمدة خميس علوي الهاشمي وعبدالرحمن الرفيع. أما الأسماء السعودية التي شكلت بواكير شعر الحداثة فقد كانوا محمد العلي سعد الحميدين علي الدميني محمد الثبيتي عبدالله الصيخان محمد جبر الحربي محمد عبيد الحربي أحمد عايل فقيهي غجرية الريف (هيا العريني) خديجة العمري. إضافة بالطبع لتجربة ثريا العريض وغازي القصيبي في كتابة قصيدة التفعيلة.
مفهوم الحداثة عند الصحوين
قدم الصحويون رؤيتهم للحداثة على أنها مرادف التغريب والتخريب اللغوي والمعرفي والقيمي في الأدب شعرًا ونثرًا فكرًا. وكما أدت تهمة الحداثة إلى التضييق على كل كُتابها فأغلقت ملاحقهم الثقافية وجمدت النوادي الأدبية، فقد أفرغت الجامعات من الكثير من المحتوى العلمي للتخصصات الإنسانية. فمثلا أعتبر شعر قصيدة النثر مثالا على الهدم اللغوي للشعر وأعتبر ميل قصيدة النثر لالتقاط اليومي والمصيري في الحياة خروج على معقل أغراض الشعر التقليدية المنيع. كما أعتبر مثلا أن تدريس كتاب مثل التفكير العلمي لفؤاد زكريا أو حياة في الإدارة لغازي القصيبي من المخالفات. فالصحوة كأي تيار مُسيس تاريخيًّا وفي كل تجمع بشري لا يصبح سيفًا مسلطًا إلا بتحويل منظوره إلى خطاب (discourse) يتغلغل في أحشاء المجتمع وفي تركيبته وفي شبكة العلاقات الرأسية والأفقية، بما قد يشحن المجتمعات بحالة عامة من الشك والتوحش.
عينة من مجادلات الورقة
بالرغم من الدور الجارح الذي لعبته الصحوة في تعطيل حراك الحركة الثقافية والأدبية والشعرية الحديثة من بالثمانينات الميلادية, فإنه لا يمكن تحميل الصحوة وحدها تبعات كل حالة البيات والتشظي التي عاشتها الحركة الثقافية والأدبية لقرابة عشرين عامًا ولا حالة العزلة التي لحقت بالمثقف أو حالة التوحش التي آل إليها المجتمع, فلا زال الأمر يتطلب مراجعة نقدية علمية لماكان لعدم إعادة إنتاج عوامل التعطيل النهضوي حاضرًا ومستقبلاً وإن بأساليب جديدة لا سمح الله.
وأخيرًا إن كان من كلمة أختم بها هذه المحاضرة فهي أنه يهمني التأكيد على أن هذه الورقة وكل نقطة جدل قيلت فيها لم تكن إلا من باب الموضوعية العلمية والنزاهة الأدبية بعيدًا عن أساليب النميمة الاجتماعية أو ادعاء بطولات شخصية فلا أروم غير وقفة نقدية شفيفة ولوطني العزة وللشعر مزيدًا من التوهج. ولكم طلابا وأساتذة كل الامتنان على جمال الإصغاء.