عبدالوهاب الفايز
من الموضوعات الأساسية في اقتصاديات الدول الغربية التي انشغلت بها مؤسسات الفكر والتشريع، منذ مطلع القرن العشرين ومستمرة إلى الأيام الأخيرة، هو موضوع حماية مقومات المنافسة ومحاربة ممارسات الاحتكار في التجارة. ففي مطلع القرن العشرين قاومت الحكومات والبرلمانات مظاهر الاحتكار الذي ينمو من تركز الملكية لقطاع معين في أيد قليلة، وما زالت الآن تقاوم الاحتكار الذي تطور في صناعة المعلومات.. ففي الدول الأوروبية يجري النقاش حول احتكار شركات المعلومات، مثل جوجل.
الهدف طبعاً هو حماية المستهلك وأيضاً حماية التاجر وتنمية بيئة عادلة وشفافة لممارسة التجارة، ولاستدامة المنافسة على قواعد واضحة، فالاحتكار ممارسة خطيرة على استقرار المجتمعات السياسي والاقتصادي.
الأمر الجيد أن التجربة السعودية لحماية المنافسة ومحاربة الاحتكار، والتي تأخر ظهورها كممارسة متكاملة رغم حيوية وسعة النشاط التجاري، إلا أنها الآن تخرج وتأخذ مساراً إيجابياً في التطبيق الذي يقوم على أنظمة واضحة وقدرات بشرية متمكنة، وتوجهات تأخذ في الاعتبار المصالح العليا للبلد، وتضع مصلحة المستهلك الأساس الذي تُدار لأجله حماية المنافسة.
في لقاء مع الأخوين العزيزين الدكتور محمد الجاسر رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للمنافسة والدكتور عبدالعزيز الزوم محافظ الهيئة، عرفنا التوجهات التي سوف تقود جهود حماية المنافسة في الممارسات التجارية. فالتجربة أمامها فرصة لكي تَقوى وتَتطور وتُنمي خبرتها الفنية، والأوضاع التجارية في المملكة لا تواجه مظاهر احتكار واضحة حرجة، فالجهود الحكومية لمراقبة السلع الأساسية مكثفة، بالذات في قطاع الدواء والغذاء، حيث تراقب الهيئة العامة للدواء بدقه حالة الأسعار.
أيضاً هيئة تنظيم الكهرباء والإنتاج المزدوج تقوم بتنظيم صناعة الكهرباء وتحلية المياه لضمان توفير إمدادات كافية، وعالية الجودة، وخدمات موثوقة يعتمد عليها، بأسعار مناسبة. كذلك الجمارك والموانئ يعملان على خفض تكلفة التشغيل وتسريع فسح البضائع حتى لا يتحمّل التاجر تكاليف خارجة عن إرادته. كذلك مؤسسة النقد تراقب أداء القطاع المصرفي لتتأكد من قدرته على خدمة العملاء بالصورة العادلة، وأيضاً هيئة سوق المال دورها حماية التعاملات في سوق الأسهم وتحقيق العدالة والشفافية. أيضاً وزارتا التجارة والعمل تراقبان الأسواق لحمايتها من ممارسات الغش والتستر على العمالة غير النظامية.
الهيئة العامة للمنافسة من حقها النظامي والأخلاقي تتبع أداء هذه المنظومة التشريعية والرقابية، لأن الأمر الأساسي هو: (حماية المنافسة وحماية المستهلك)، وهذه تتحقق باستمرار الرقابة، قد تتحقق عبر فتح المنافسة بين العديد من الشركات والمؤسسات الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، أو قد تتحقق عبر السماح بوجود عدد قليل من المنتجين والموردين إذا كان هذا يحقق للمستهلك الأسعار المقبولة العادلة.
هذا لا يعني قفل الباب أو منع مستثمرين جدد، ففي الأسواق الحرة طبيعي أن يدخل السوق من يشاء إذا وجد جدوى. ولكن يبقى دور الجهات الحكومية الرقابة على الأسواق إذا كان في السوق عدد قليل من المنتجين، وهنا ليس الهدف حماية المستهلك على حساب التاجر، فالهدف هو إبقاء التاجر الناجح مستمراً في إنتاجه حتى لا يقل عرض السلع أو تختفي، وعندئذ يتضرَّر المستهلك.
هذا التصور الذي يقوم على موازنة المصالح في تطبيق أنظمة حماية المنافسة الشريفة في التجارة بداية حكيمة، وكنا نخشى أن نذهب بعيداً ونتطرف في التطبيق الذي قد يربك النشاط الاقتصادي وحركة التجارة، ولكن تحقيق المنافسة العادلة أمر يتم تطبيقه بدون تردد أو تساهل، فالحكومة تتكامل جهودها لتحقيق هذا الهدف السامي الذي يحمي تطبيقه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان وسمو ولي عهده، لأنه جانب يمس مصالح الناس ومصادر رزقهم، ويمس مصالح الدولة.
حماية المنافسة تحقق الآن مكاسب للقطاع العام، فهناك العديد من العقود الحكومية التي تراجعت تكلفتها بأرقام كبيرة بعد التشدد في المراقبة والتحرّي لتكلفة الخدمات والسلع.
يبقى القول إن ممارسة التجارة يحكمها بشكل أساسي (الأخلاقيات والقيم) ولن تستطيع الأنظمة والمؤسسات محاربة الاحتكار والغش والتدليس. دور المواطن مهم جداً للمساعدة في التبليغ عن أية ممارسات للاحتكار يراها أو يعرفها.
هيئة المنافسة تدعمها الآن (الإرادة السياسية)، والبدايات الأولى لعملها تحمل المؤشرات الإيجابية، وأيضاً تحتاج للوقت لتطور إمكاناتها وتنمية مواردها البشرية. المهم لتأصيل دورها هو: ضرورة تبني مشروع للتواصل الإعلامي يشرح ويقدم للناس فكرة وأهداف حماية المنافسة حتى يعرف الناس الحقائق الموضوعية لعمل الهيئة الذي يقوم على التدخل السريع عند الضرورة، ويقوم على الرصد والتحليل العلمي الدقيق لممارسة التجارة على المدى البعيد.