أذكر فيما مضى أيام دراستي الجامعية، أن بعض الأيام تمر شاقةً وطويلةً علينا كطلاب، فأحياناً يكون الجدول مضغوطًا، بحيث نبدأ الساعة 8.00 صباحًا، ويمتد وقت الدوام إلى ما بعد العصر. وقد لا نملك الوقت حتى لتناول وجبة الغداء. وأذكر أننا في نهاية آخر محاضرة نكون قد فقدنا التركيز، ونتلهف إلى العودة إلى منازلنا وأخذ قسطٍ من الراحة. وأذكر أننا نتطلع لنهاية آخر لحظة من لحظات المحاضرة الأخيرة، وحين يختم لنا معلمنا محاضرته يقفز لنا أحد الطلاب الثرثارين سائلاً المعلم سؤالاً لا صلة له بالمنهج ولا علاقة له بالزمان ولا المكان الذي نحن فيه، وليس لنا فيه أي فائدة. فيضطر المحاضر أن يجلسنا لبعض الوقت الإضافي؛ كي يجيب عن سؤال هذا الطالب المزعج. فيستغرق المعلم وقتاً؛ كي يفهم السؤال ووقتاً إضافياً آخر كي يجيب؛ لأن أسئلة هذا الطالب دائمًا مبهمة وأشبه ما تكون بالألغاز، وغالباً ما تكون أسئلة هذا الطالب عبارة عن فلسفة وإثبات وجود وأشياء أخرى غير مفهومة. فيقعدنا المحاضر لفترة إضافية تجعلنا حانقين وممتعضين على زميلنا الذي اقتص من وقت راحتنا بسبب سؤاله غير المجدي. وتسبب بإطالة الوقت علينا.
تتكرر قصة هذا الطالب المزعج في مراحل ومستويات مختلفة من العمر وبأشكال أخرى متطورة، حيث كنت أعتقد أن تلك حالة خاصة بتلك الفترة الزمنية أو المرحلة العُمرية فقط. لكن شاهدتها تتكرر كثيراً حتى وقت كتابة هذه الأحرف.
ففي كثير من الدورات التي أحضرها أجد من يقاطع المدرب كثيراً، غالباً لاستعراض معلوماته وإعطاء إشارة للمدرب والموجودين وكأنه يقول «نحن هنا» ليثبت وجوده.
وهناك من يشعرك بأنه يحضر المحاضرات أو الدورات والاجتماعات وكأنه مدقق أو مصحح لغوي وعلمي، أو أنه مرجع للمتحدث، فتجده يبحث عن زلاته أو أخطائه اللغوية كي يصححها، ويجد فرصة للثرثرة والحديث حول معلوماته ومعرفته وكأنه هو المتحدث الرسمي، أو متعهد بتقييم المحاضر ومادة الدورة.
هؤلاء يضيعون أوقاتنا الثمينة. وأجد انزعاجًا كبيرًا منهم، فهم يفسدون دائماً الاندماج والاستمتاع، ويقطعون حبل الأفكار على المتلقين. وهم دائماً مصدر تشتيت وعدم استقرار ذهني وتضييع وقت للجميع.
تجد هؤلاء المزعجين دائمًا في اجتماعات العمل والمجالس واللقاءات الرسمية، فهم يعشقون مقاطعة الحديث ويسارعون بالمداخلات الطويلة المملة غير المجدية، ودائمًا لا يدعون للآخرين فرصة المشاركة أو الاستفسار.
أحياناً أحضر بعض اللقاءات المفتوحة، وقد يكون المتحدث شخصًا مسئولاً أو عالمًا أو تاجرًا ويكون الوقت ضيقًا جداً. وحين يأتي دور استقبال أسئلة الحضور والنقاش تجد هذا الشخص الثرثار يسابق الآخرين، ويقاتل في سبيل أن ينتزع المايكروفون، ويأخذ وقتاً مبالغاً فيه، ولا يختصر كلامه. فتجده يأخذ وقتاً طويلاً في الترحيب والتحية والمقدمات الروتينية، ثم يبدأ يستعرض معلوماته حول اللقاء، ويتكلم عن نفسه وعن آرائه واعتقاداته ويحوِّر الموضوع حول نفسه. وكل هذا على حساب أسئلة ومشاركة الآخرين، ولا تخلو مشاركته من بعض الطرائف المملة والاستظراف الذي هو في غير محله.
أحياناً يكون هناك عمل مهم أو اتفاق مع شخص، ولضيق وقت الطرفين وكثرة انشغالهما، ولخصوصية الموضوع لا بد من مقابلة شخصية بين الطرفين. ثم إذا حانت الفرصة أن يلتقيا وقبيل أن يبدأ الطرفان بحديثهما يقتحم أحد الثرثارين المكان ويجلس بينهما، ويقطع عليهما حديثهما وحبل أفكارهما، فلا يستطيعان الحديث أمامه لخصوصية الموضوع. والأمر الآخر أنه يأتي فجأة وبلا موعد ويخرجهما عن صلب الموضوع. فتجد أنهما كانا يتناقشان بمشروعًا ما ذي جدوى علمية أو مادية، ثم يدخل عليهما المكان بلا إذن، ويخرجهما من موضوعهما ويتصدر المجلس، ثم يتحدث عن خرق الأوزون وانتشار الملاريا في أفريقيا والمنتجات المضرة بالصحة وعادات قبائل المايا ومثلث برمودا، وإشاعات كثيرة وكلام كثير جداً بلا فائدة ولا ثمرة. ويسترسل بحديثه حتى يقضي تماماً على وقتهما ولا يتركهما حتى يتفرقا. وقد حول وقتهما الثمين المثمر إلى هدر وبلا فائدة.
قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ أحبَّكم إليَّ وأقربَكم مني في الآخرةِ مجالسَ أحاسنُكم أخلاقًا، وإنَّ أبغضَكم إليَّ وأبعدَكم مني في الآخرةِ أسوأكم أخلاقًا الثَّرْثَارُونَ المُتَشَدِّقُونَ المُتَفَيْهِقونَ).