تحدثنا في المقالة السابقة عن (أغلوطة) أو أسطورة (المنهج العلمي الصارم)، وننتقل الآن إلى نقد التراث أو الموروث، سواء المقدس أو غيره، وهو ما يسبب حساسية غير مبررة وإن كانت مفهومة؛ كونها تتعامل مع أمر عزيز علينا، نعده مكوّنًا أساسيًّا لهوياتنا وذواتنا. وربما مما يزيد حساسية الأمر أن من يقومون بهذه النقود، حتى من يدعون العلمية مثل أدونيس والمرزوقي، يتغافلون عمدًا أو جهلاً عن إشكالات أي طرح ناقد لأي منهج (علمي)، التي يعترف بها (الإشكالات) أساطين العلم ممن يأخذ عنهم هؤلاء العرب، ويتوهمون أو يوهمون المتلقي بأن نقدهم وقراءاتهم خاتمة المطاف والحلقة الأخيرة للعلم، بل يرون أنهم - على حد وصف أحد الباحثين - يأتون كمبشرين [بل مخلّصين]، ولا يرون أن قراءاتهم ناقصة، ولا عرضة للتغير، ولا محل نقد هي أيضًا! وربما تابعهم في ذلك بعض الباحثين السعوديين الذين يشتغلون على قضايا النقد الثقافي؛ إذ تتحول أطروحاتهم إلى ما يشبه الوصاية الفكرية والأصنام التي يقدسونها. وفيما يأتي سأنقل بعض الومضات من تخصصي في اللسانيات التطبيقية الناقدة.
ففي هذا السياق يذكر ألاستير بنيكوك في مبحث أطر العمل الناقدة أن هناك جدلاً حول المناهج الناقدة نفسها، وهناك من يحذر من أن يكون الباحث نقديًّا جدًّا. كما يرى وديسون - وهو أحد أشهر الباحثين في مجال النقد - أن كونك ناقدًا يعني قيامك بعملية تقييم وجهات النظر المتعددة حول موضوع ما.. ويحذِّر من الالتزام أيديولوجيًّا بمنظور واحد. وهو ما ألاحظه على كثير من النقاد العرب؛ إذ يتحول النقد لديه إلى دوقمائية أيديولوجية غير آبهين بتحذير هذا الباحث الذي يكاد يكون مسلَّمة منهجية.
كما يؤكد في السياق نفسه أن المنهج الناقد لا ينظر في الأرضية الثابتة للحقيقة البديلة التي يبشر بها ويدعو إليها، ولكن يفضّل التشكيك المستمر لكل الفئات، بما فيها وجهة نظره (ألاستير بنيكوك: 858). ويذكر أيضًا أن إحدى مشاكل الحداثة المتحررة هي يقينها حول صحتها، وأن هذا الأمر هو ما انتقده وديسون (2001:15) لأنه «ملتزم من الناحية الأيديولوجية بمنظور واحد». ويؤكد الحاجة إلى التواضع والاختلاف، وطرح أسئلة حول حدود المعرفة الخاصة.. كما ينقل عن وديسون (2001:16) تساؤلاته: «عن أخلاقيات من نتكلم؟ وكيف يمكنك الإخبار عن سبب يستحق من سبب لا يستحق؟ والأشخاص الناقدين [النقديين] مثل المبشرين يبدو أنهم واثقون بحق بأنهم قد عرفوا ما هو جيدًا [؟] للأشخاص الآخرين على أساس معتقداتهم الخاصة، ولكن استنادًا إلى الحاجة إلى الجزئية. نحن في الواقع ننكر التعددية ونفرض نسختنا الخاصة للواقع؛ وبذلك نمارس قوة السلطة التي ندعي استنكارها» (ألاستير بنيكوك: 864). ويبالغ في التأكيد حين يذكر أن من إشكالات العمل الناقد أنه غالبًا متهم بالتقيد بموقف أيديولوجي معين، وأنه يدعي الحياد، وهو يروج رؤية محددة جدًّا للعالم (التي هي رؤيته الناقدة بالطبع)، وهذا وصف دقيق للمشتغلين لدينا بنقد التراث وبالنقد الثقافي عمومًا. فبنيكوك يرى أن هدف النقد ينبغي ألا يكون النقد ذاته بقدر ما هو إثارة الأسئلة وتعددية المواقف ووجهات النظر..
كما يحذرنا شيقلوف ( Schegloff, 1997:183) من مثل هذا الموقف (الشائع عربيًّا في رأيي) المتصف بـ «النسبية ووجهة النظر الخاصة بالتحليل الثقافي». وتؤكّد باكستر أن الباحثين في تحليل الخطاب لا يرون أن هناك بحثًا يمكن أن يقوم على الحياد والموضوعية يمكن الحصول عليه أو حتى مرغوبًا فيه. وهذا بالطبع - في رأيي - تسليم منهجي بطبيعة البشر ونقصهم.
وأجد ضرورة لنقل ما أكّدته باكستر (ترجمة العصيمي السابقة:251) بالنص لوصفها الدقيق لما أراه مفقودًا لدى زاعمي النقد من بعض الباحثين العرب: «ولذلك ففي الوقت الذي يرمي فيه تحليل الخطاب الناقد - من ناحية المبدأ - (انظر مثلاً Van Dijk, 2001a) إلى تفكيك علاقات القوة المهيمنة الملحوظة في النصوص، وبهذا قد يُنتج قراءة مفردة مضادة، قد تصبح في النهاية ذات سلطة، وما بعد البنائية، وهو المذهب الداعم الذي يشجع على إمكانية قراءات عدة متنافسة. هذا يعني أنه لا وجود لقراءة وحيدة لنص تُعتبر نهائية، بل على العكس؛ كل قراءة يمكن أن تُراجَع وتُمتحَن على ضوء مناظير أو مناهج تحليل متنافسة». ولهذا فنحن في سيرورة حتمية إلى نقد النقد، ونقد نقد النقد إلخ...
بناء على كل ما تقدم لا أجد أي مبرر (علمي) للحساسية المفرطة تجاه نقد التراث مهما بدت سوداوية أو سيئة أو سلبية إذا أخذنا القراءة الناقدة بحجمها الطبيعي، وفهمنا أن مقولة (العلمي الصارم) ما هي إلا تضليل وخداع لغوي لا يصمد لدى أصحاب هذه المناهج (العلمية) الغربيين أنفسهم. فمن ينشر مقالة ناقدة دون الاعتراف بحدودها يؤخذ علميًّا على أنه شتيمة من شخص جاهل لا يستحق أن يوصف بالباحث (العلمي).
وأتذكر موقفًا مشابهًا لهذه الشتيمة على متن إحدى الطائرات في رحلة داخلية في الولايات المتحدة من أريزونا إلى أتلانتا، جلس بجواري شخص مسيحي متدين (لا يقل جهلاً عن بعض العرب المتشنجين المتوترين عند نقاش آرائهم مثل المرزوقي). كان عائدًا وبجواره زوجته من مهمة تبشيرية من دور أيتام في المكسيك، أراد استفزازي وهز قناعاتي في إسلامي حين استأذن في النقاش حول عقوبة الإعدام في الإسلام، مقدمًا رأيه على أنه نقد منهجي (علمي) للإسلام، وأجبته بألّا بأس في النقاش بشرطين: أن يكون النقاش مهذبًا لا استفزازيًّا، وألا يتوقع مني أن أرتد في نهاية الرحلة من الإسلام إلى المسيحية مثلما لا أتوقع العكس منه؛ إذ أنا رضعت الدين مع حليب أمي، ولم أعرض أي مسألة في ديني على عقلي بوصفه معيارًا لديني. لكنه لم يلتزم بالشرطين فقلبت سؤاله المستفز عليه بعد أن أجبته مطبقًا السؤال على زوجته المسنّة والجالسة بجواره التي كانت أكثر تعاطفًا منه وتفاهمًا مما جعلها تغضب منه، وتنهره بكلمات لم أفهمها، مع وكزة بمرفقها، ولم تكلمه إلى نهاية الرحلة التي استغرقت ثلاث ساعات. ولما أردنا الافتراق لدى وصولنا كان يبدو عليه التعاسة بينما هي ودعتني بأدب واحترام، أرادت من ذلك - على ما يبدو - كيدًا لزوجها وتأديبًا له، إضافة إلى إيصال رسالة لي بعدم رضاها عن سوء أدبه.
** **
- د. صالح بن فهد العصيمي