تتوارد خواطر الشعراء، وتتلاقى... فيأخذ اللاحق معانيه عن السابق، بوعي ودون وعي، و»ما أرانا نقولُ إلا رجيعًا... ومعاداً من قولنا مكرورًا» وقد فصّل النقد القديم في صور هذا الأخذ الذي أسموه (سرقات شعرية) وفصّلوا في أنواع السرقات، ومنها: (وقع الحافر على الحافر)
بعيدًا عن السرقات، قريبًا من الحوافر، أُفتّش عن آثار الخطى في الشعر العربيّ، فالوصول غاية والخُطى وسيلة، وبينهما امتداد الطريق. وباختلاف الطرقات وباختلاف وسائل عبورها تظلّ الأحذية إخوة الطريق، تذرع أبياتًا من الشعر القديم في سياقين؛ سياق الإهانة وسياق التمجيد. ولعلّ أشهر بيت شعري كثُر استحضاره في سياق الهوان:
«قومٌ إذا صفع النعال قفاهم قال النعال: بأي ذنبٍ أُضربُ»
ومنه أيضا قول المتنبي عن أعداء ممدوحه:
«جُعِلَت هامهم نِعالُ النعالِ»
أمّا في السياق الآخر؛ سياق المبالغة في التمجيد، يستدعي المتنبي الحذاء أيضًا ويجعل ممدوحه متساميًا فوق العالم ينتعل الهلال ويخطو في السماء:
«فبأيما قدمٍ سعيتَ إلى العُلا أُدُمُ الهلال لأخمصيك حذاء»
في الشعر المعاصر- حين أتعقبْ آثار الأحذية وحضورها الرمزي، أجدها تذرع الطُرقات التي تنتهي بالخيبة، لتستعيدُ سيرة (خُفي حُنين) وتتراكم في هذا الطريق حيث لا محطات للوصول، ولا تمجيد ولا أمجاد. صارت الأحذية مُعادلاً موضوعيًا لتعب المنتعلين، يشهد اهتراء الحذاء على اهتراء قلب صاحبه وثقوب عُمره المهدور.
فالأحذية في شعرنا المعاصر أكثر من تلك المصفوفة في الشعر القديم، لكنّها لا تطأ رأس أحد ولا يتذلل لها أحد؛ أحذية تحضر لتبقى بعد رحيل مُنتعليها شاهدةً على حروب عادت منها الوعود بُخفي حنين، وأحذية تهترئ في المنافي وتدوس بلا قصد على الجثث. في أوراق (تأبط منفى) يكتب (عدنان الصائغ): «لا مهرب
هي الأرض أضيق مما تصورت،
أضيق من كف كهلٍ بخيل...
تعثرتُ في صخرةٍ.
فرأيتُ حذائي الممزق يسخرُ مني»
ويكتب ميثم راضي عن الجنود خارج سعار الاقتتال، الجنود الذين يُساقون للحروب مُرغمين: « كأنهم سقطوا من قصة حُب في المحطة مباشرةً دون المرور بمكاتب التجنيد» فيستدعي الأحذية العسكرية دون إهانة ودون هوان، بل من خلال عيني طفل تسرق الحروب عمره وعمر أبيه:
«ومرةً عاد أبي من القتال.
فاكتشفت بأنَّ عدد ثقوب جزمته العسكرية كان مساويًا لعُمري...»
أحذيةٌ تتقطع الدروب بأصحابها وتلفظهم جبهات القتال، فتبقى شاهدةً على الموت الذي يطفح في الطرقات، أحذيةٌ تطأ النسيان العدو الأزليّ للثأر، الذي يقف في وجهه (بلند الحيدري) متعهدًا:
«سنلتقي السكين والجرح،
وبُقعة الدم التي تحملها أحذية العابرين»
وهذا الدم/شاهد الموت يسخر الماغوط من مجانيته ويقول:
«لم يعد ثمّة ما يفصلُ جثث الموتى عن أحذية المارة»
فالحذاء يحضر هنا أيضا بصفته رمز العبور، كالموت الذي صار يعبر شوارعنا العربية يوميًا، يذرع أرض أحلامنا، ويركلها فيما تلفظ أنفاسها الأخيرة
وعودًا على بدء، على (السرقات الشعرية) أنوّه: أن لا سرقات هنا، فالشعراء الذين استحضروا الموت والحُزن والآلام من خلال استدعاء الأحذية لم يسرقوا معانيهم، واستحضار السرقات هُنا لا يختص بالشعر، بل بالأوجاع التي تسرق أعمارنا. وعنوان: (وقع الحافر على الحافر) لا يخص توارد معاني الشعراء وتناسخ ألفاظهم، بل يخص أوجاعهم التي تضع الحافر على الحافر وتستنسخ نفسها.
أخيرًا:
مهما تقطعت الطُرقات بالموت، ففكرة الوصول لا تموت. والسوري حسن إبراهيم الحسن يقول:
«سأصلُ إلى النهرِ يومًا.
وأغسل من وسخ الأيام حذائي»
** **
- منى محمد