لم يكن إقبال فيلسوفاً يعمل عقله في النظر العقلي لتحقيق المتعة العقلية والتفوق في الجدل النظرى بينه وبين خصومه فحسب، وإنما كان رحمه الله فيلسوفاً مصلحاً يعمل عقله محلقاً في عالم المثالية ودنيا الإبداع العقلي بأحد جناحيه ويلامس الواقع في دنيا الناس وواقع الأمة بجناحه الآخر؛ من هنا كان انتقاده للفلسفة اليونانية القديمة من حيث موضوعها وغايتها، يقول رحمه الله: «إن الفلسفة اليونانية - على ما نعرف جميعاً - كانت قوة ثقافية عظيمة في تاريخ الإسلام ولكن التدقيق في درس القرآن الكريم وفي تمحيص مقالات المتكلمين على اختلاف مدارسهم التي نشأت ملهمة بالفكر اليوناني، يكشفان عن حقيقة بارزة هي: أن الفلسفة اليونانية مع أنها وسعت آفاق النظر العقلي عند مفكري الإسلام غشت على أبصارهم في فهم القرآن». (1)
ويمضي إقبال في انتقاده لسقراط الذي جعل همه عالم الإنسان وحده دون أن يعنى بما يضمه الكون من مخلوقات أخرى تترابط فيما بينها وتتكامل لتنظيم الحياة وتنسجم في هذا الكون فيقول: «وكان يرى أن معرفة الإنسان معرفة حقة إنما تكون بالنظر في الإنسان نفسه؛ لا بالتأمل في عالم النبات والهوام والنجوم، وما أشد مخالفة هذا لروح القرآن الذي يرى في النحل على ضآلة شأنه محلاً للوحي الإلهي والذي يدعو القارىء دائماً إلى النظر في تصريف الرياح المتعاقب، وفي تعاقب الليل والنهار والسحب والسماء ذات النجوم والكواكب السابحة في فضاء لا يتناهى». (2)
ولم يكن إقبال من ذلك الصنف من دارسي الفلسفة الذين يقتصر دورهم على النقل والدرس والاستيعاب دون تمحيص وانتقاء وانتقاد للأفكار الفلسفية البشرية المعروضة وإنما كان عبقرياً تأدب بأدب القرآن الكريم الذي يلفتنا إلى النظر والتمحيص وإجالة البصر حتى في قضايا الإيمان ليكون إيماننا إيماناً راسخاً عن فهم وتدقيق لا عن وراثة وتقليد، ولنقرأ معاً قول الله تعالى: «فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه» ومن ثم نقول إن إقبال صدر عن هذا الأدب القرآني فانتقد سقراط الذي قصر همه واهتمامه على عالم الإنسان فحسب دون بقية الكائنات التي يعمر بها الكون والتي تكون بتفاعلاتها مركب الحياة في هذا الكون الذي نراه وانتقد كذلك أفلاطون الذي قدح في الإدراك الحسي « لأن الحس في رأيه يفيد الظن ولا يفيد اليقين، وما أبعد هذا القول عن تعاليم القرآن الكريم الذي يعد (السمع) و(البصر) أجل نعم الله على عباده ويصرح بأن الله جل وعلا سوف يسألهما في الآخرة عما فعلا في الحياة الدنيا « (3)
.
ويرى إقبال «أن البناة من مفكري الأشاعرة كانوا على طريق الصواب، وقد سبقوا الفلسفة المثالية إلى قدر من أحدث آرائها وإن كانت حركة الأشاعرة في جملتها لا غاية لها إلا الدفاع عن رأي أهل السنة بأسلحة من المنطق اليوناني» (4).
ويرى أن الإمام أبا حامد الغزالي قد نهض للتبشير بمبدأ فلسفي جديد سبق به (كانط) الذي ذهب إلى قصور العقل الإنساني في مواجهة أصحاب المذهب العقلي، ويرى إقبال: «أن التشكك الفلسفي الذي اصطنعه الغزالي على تطرفه بعض الشيء قد انتهى إلى النتيجة نفسها في العالم الإسلامي إذ قضى على ذلك المذهب العقلي الذي كان موضع الزهو على الرغم من ضحالته وهو المذهب الذي اتجه إليه المذهب العقلي في ألمانيا قبل ظهور (كانط)» (5).
أجل إن إقبال صدر عن القرآن الكريم واستنار بنوره كما سبقت الإشارة إلى ذلك في تأثير الطفولة الأولى، وفي ديوانه (أسرار خودى) أوضح بجلاء وجهته الفلسفية ومبادئه التي تنبعث من الذات وفق مبدأ المسئولية الفردية في الإسلام «كل نفس بما كسبت رهينة»، «وأن ليس للإنسان إلا ما سعى» . وأكد حرية الإرادة الإنسانية وانتقد بشدة التصوف العجمي والانسحاب من الحياة فاتجه بفلسفته نحو القوة والطموح في بناء عالم إسلامي جديد وقوي فنلمح اتجاهه نحو فلسفة القوة والأمل في مواجهة أوضاع العالم الإسلامي في ذلك الوقت حيث كانت معظم أقطار العالم الإسلامي ترزخ تحت نير الاستعمار، ومن ثم رأينا شاعرنا الفيلسوف يتجه نحو فلسفة القوة محررًا إرادة المسلم ومبشرًا بالفجر الجديد باعثاً القوة والحيوية في الجسد الإسلامي الذي أضحى وقتئذ جسداً بلا روح فجاء إقبال ينفخ بشكواه وصرخاته في جسم الأمة الإسلامية لتنهض وتتسلم راية القيادة العالمية، ولنسمع قوله:
ألـم يبعث لأمتكم نـبى
يوحدكم على نهـج الوئام
ومصحفكم وقبلتـكم جميعاً
منــار للأخـوة والسلام
وفـوق الكل رحمن رحيم
إلـه واحـد رب الأنـام
** **
- عبد اللطيف الجوهري