أ.د.محمد بن حسن الزير
إن ما أشرنا إليه في المقال السابق، عن ذلك الكم الهائل من الجهود بشأن المصطلحات العلمية والعناية بها، يثبت أن مسألة تعريب التعليم، لا علاقة لها وجوداً ولا عدماً بمسألة المصطلح نفسها، بدليل أن وجود هذا الكم الهائل للمصطلحات لم يؤد إلى بعث الاتجاه في واقعنا العربي إلى التعليم بالعربية، وأن السبب الموضوعي هو عدم وجود التعليم نفسه باللغة العربية، ومادام هذا التعليم غائباً، ومادامت الممارسة غير موجودة فلن تتم الاستفادة من هذه الجهود التعريبية، كما أنها نفسها لن تصل إلى الصورة المأمولة نضجاً وشمولاً، في ظل هذا الغياب للتعليم بالعربية.
نعم هناك كثير من المصطلحات لم تعرب أو تترجم، وربما لا يوجد لبعضها مقابل في العربية، ولكن هذه مسألة لها حلولها، ولكن الشيء الأهم هو أن نفرق بين أن نستخدم لغتنا العربية في التعليم، وحاجتنا إلى المصطلحات وتعريبها، كما يقول الدكتور المبارك؛ (انظر المرجع نفسه صـ35، 41) مؤكداً على أنه «لابد في البدء من الإلحاح على أن تعريب العلوم شيء وتعريب المصطلحات شيء آخر وأن الذين يحتجون لعدم استعمال العربية في التعليم بفقدان المصطلحات العربية الكافية أو صعوبة تعريب المصطلحات العلمية يخلطون بين أمرين؛ لأن التعليم باللغة يعني استعمال اللغة فيما نفكر فيه، واستخدامها في المحاضرات وفي المؤلفات، وهذا يعني ترسيخ عادة لغوية، كما يعني تنمية الفكر وفسح المجال أمامه للإبداع والابتكار، وسلامة المحاكمة العقلية، ولا يفيد هذا الأمر أن تكون بعض المصطلحات في أول الأمر باللغة الأجنبية، لأن اللفظ المفرد شيء وأسلوب التفكير ولغة التدريس والكتابة شيء آخر... على أن هذا لا يقلل من ضرورة العمل على إيجاد المصطلح العربي وخاصة في مجال العلوم التطبيقية كالزراعة والهندسة والصيدلة فإن في ذلك إغناء للغة وعوناً على نموها وتطويرها... بل إننا نرى أن التعريب في مجال المحاضرات العلمية والتأليف يجب أن يسبق تعريب المصطلحات... وأن تعريب العلوم هو الذي يستدعي تعريب المصطلحات وإيجادها، والتمرس والاستعمال هو وحده، الذي يهدينا إلى المصطلح الملائم... ولعل مما يوضح ذلك عملياً تجربة كلية الطب، وكلية طب الأسنان في جامعة دمشق فقد أنشئ المعهد الطبي بدمشق عام 1919 وتولى التدريس فيه أطباء تلقوا علومهم باللغة التركية وعلموا باللغة العربية تدريساً وتأليفاً واستمر الأمر على ذلك حتى أصبح بين أيدينا نحو (100) مجلد في الطب باللغة العربية ولم تكن المصطلحات الأجنبية عائقاً دون تعريب الطب. وألقيت المحاضرات في كلية طب الأسنان أيضاً باللغة العربية وعلى غير مثال سابق... واستطاعت كلية طب الأسنان في جامعة دمشق أن تشق طريقها باللغة العربية تدريساً وتأليفاً...» انظر: المبارك؛ اللغة العربية في التعليم العالي..، ص، 41، 42، 43، 47-48.
ومن قبل كانت هناك تجربة الممارسة العملية الناجحة في التجربة المصرية منذ عهد محمد علي، حيث تم تدريس كثير من العلوم باللغة العربية، وتكونت لجان علمية لتعريب المصطلحات وظهرت كتب عربية مترجمة، وبسبب هذه الممارسة اندفع المبعوثون بعد عودتهم استجابة للحاجة - إلى ترجمة الكتب المتخصصة وكانوا يجتمعون يومياً لأربع ساعات لتحقيق هذا الغرض، وأعد العلماء المؤلفات والمعاجم العلمية، ووضعوا كثيراً من المصطلحات ( انظر: د. محمود فهمي حجازي؛ اللغة العربية في العصر الحديث - قضايا ومشكلات ص-20.) ومن قبل ذلك بكثير كانت تجربة اللغة العربية ناجحة مع العلوم تأليفاً وترجمة وإبداعاً في العصر العباسي وفي العصور اللاحقة وبخاصة في الحقبة الأندلسية.
ولا شك في أن الترجمة أداة حضارية من أدوات العلم والمعرفة، وكان لها وجودها الحقيقي الفاعل في مسيرة حضارتنا وتطورها وتفاعلها مع الأمم الأخرى والإفادة من تجاربها.
والترجمة إحدى «الوسائل الصالحة لاقتباس العلوم، إذ لا تفكير بلا لغة، ولا تفكير قويماً إلا باللغة الأم، التي يتعلمها الإنسان في طفولته ويألف حروفها، ويأنس بألفاظها فتمتزج بحسه وشعوره، وتندمج بنطقه وتفكيره... والترجمة أداة ضرورية لتقدم المجتمع وليست كسلاً حضارياً كما يدعيه البعض، بل إن القبوع في لغة الأجنبي هو الكسل الحضاري، وهو الرضا بالدونية، سواء بالنسبة للفرد أو المجتمع..»( د. كامل أبو سماحة؛ الترجمة أداة للتطور الفكري والعلمي - التربية (مجلة) محكمة تصدر عن اللجنة الوطنية القطرية للتربية والثقافة والعلوم، العدد (137) و(138) السنة الثلاثون، يونيو 2001م سبتمبر 2001م. صـ170-171). ولا شك في أن الدول العربية حين تجمع على تدريس العلوم والتقنية بالعربية فلابد أنها ستجد نفسها وقد واجهت المشكلات بالممارسة الفعلية؛ فإنها ستجد لها الحلول مثلها مثل اليابان وكوريا والصين وسواهم (انظر: د. صابر عبدالمنعم محمد عبدالنبي؛ فلسفة التعليم باللغة العربية وباللغات الأجنبية، بحوث مؤتمر جامعة القاهرة صـ105). وبوجود المشكلة، توجد الحاجة الملحة لحلها، وبوجود الحاجة يوجد الحل ولابد؛ لأن الحاجة أم الاختراع.