د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
يُروى أن أحدهم توجه إلى الشاعر محمود درويش 1941-2008م -وقت كان رئيس تحرير مجلة الكرمل- مستفهمًا عن سبب نشره نصوصًا رديئة فيها؛ فأجاب باضطراره إلى ذلك لعلو قيمتهم الاسمية وشهرتهم، وإن صحّ عن درويش هذا المأزق التبريري فلا عتب على من هم دونه حين يضعون «الشكل» في لغة التحكيم، وفي موازاة هذه الحكاية يجيء التراث محملًا بقلقه على طريقة الفرزدق:
وما نحنُ إلا مثلُهم غيرَ أننا
أقمنا قليلًا بعدهم وتقدمُوا..
** وأولُه سجعٌ مبالغٌ صنع مقولةً خاطئةً نصُّها: «بُدئت الكتابة بعبدالحميد وخُتمت بابن العميد»؛ فالكتابة كانت قبلهما كما بقيت بعدهما، وما أكثر ما يُزيَّف بمثلها الوعيُ اتكاءً على معادلةٍ تعطي من لا يحق ما لا يستحق، ولن نسأل عن جناية لقبٍ وسعُ كلَّ من حمل قلمًا ولو كتب معروضًا أرفقه بطابعٍ كما اعتاد زمنُ ما قبل التحديث الإداري؛ فقد عهدنا في لوائح الخدمة العامة مسمى «كاتب» وتقع، أو لعلها تقبع، بين درجات السلم الوظيفي هنا وضمن تراتبية عليا في بلدانٍ أخرى، وبين المسافتين درجاتٌ وتدرجات، وكان العامة ينطقونها» كَيْتب»، ولو عادت هذه المفردة -بنطقها العتيق- لفرَّقت بين «الكاتب والكًيْتب» كي لا يزداد سائمو «الكتابة» بين مفلسٍ ومُبلس.
** مذ ملحمة «جلجامش» السومرية -زمن سرجون الأول الأكدى 2325-2269 ق.م-) وحتى الغد وما يجيءُ تاليًا له -والكتبةُ يتناسلون؛ ليبقى وسمُ « كاتب» موحيًا بمعانٍ لا يمكن وصفها بالجودة أو الرداءة من غير أن نتأملَ مخرجاته، وقد نتفق -باستقراءٍ تأريخيٍ- على أن من يكتبُ كي يصنع لنفسه مجدًا شخصيًا لن يُعمَّر طويلًا؛ فطريقُه الأدنى وصلٌ بانتشارٍ يؤولُ إلى اندثار حين يحقق مبتغياته من جاهٍ أو وجاهة، وربما كُتبَ له أو كُتب عنه فصار علمًا تُسقطه رياحُ الزمن.
** ولأن الكاتبَ -إذا أجاد- لا يُقلدُ بل يُجدد، وإذْ تمكنُ معرفته عبر لغته وأسلوبه ومرجعيته ومقدرته على المحاكمة والحكم والنأي عن الاستنساخ والمسايرة فلعل هذا بعضُ ما يميزه عن «الكيتب»، ودون قسوةٍ على المجتمع الرقمي والمنصات التقليدية فإن «الكياتبة» أكثر من «الكُتَّاب»، وليس أبأسَ ممن يظن نفسه داخل مدارٍ لم تتهيأْ له أسبابُه، ولن نجد كاتبًا يستحق الوصف وهو لا يقرأ، كما لن نجد قراءً لا يُدققون فيما يقرأُون ولا يتدفقون حين يتفاهمون.
** تدنت لغة الكتابة حتى عند من يجيدها فصاروا أشبه «بالكياتبة» منهم بالكُتاب، وآن أن يُحرر مصطلح «كاتب» مما يشوبه أو يُشوهه ومما يحيط باسم صاحبه من لقبٍ أو نشبٍ أو رقم أو وسم، ولعل أصدق سمةٍ للكاتب (وليس الكيتب) ما وصف به العلامة محمود شاكر 1909-1997م شيخَه مصطفى صادق الرافعي 1880-1937م بأنه «ميراثٌ نتوارثُه وأدبٌ نتدارسه».
** الكاتبُ لغةٌ والكيتبُ لغو.