بينما كان التَّوَتُّرُ يمضَغُ عقاربَ ساعتي كانت الكَلمةُ حُلماً مَسفوحاً على أرائكِ شِعْرِيَّةٍ آفِلَةٍ وكانَ الانتظارُ يَنهَشُ قِطعَةً أخرى مِن أحلامِ الشُّرُفاتِ فتَتَصاعَدُ الذّاتُ نَفَساً نَفَساً مثل نَغمةٍ انفَتَحَتْ لملكوتِ النَّاي حتى يَسكُبَ في أعماقها قِسطاً غيرَ آجِلٍ مِنَ النُّعَاس!
تلك هي كَلِمَةُ السِّرِّ التي تأخذُ بِتَلابيبِ الرَّمَقِ لتحشُرَه في هَيكَلِ الذُّهولِ ذلكَ الهَيكَل الذي يَبقى فِيهِ العُشَّاقُ أجساداً مَصلوبةً على أركانِ الصَّمت!
أيَّتُها السَّيِّدة..
أنتِ والقَصيدةُ سُكَّرَتَانِ مُتَمَرِّدَتَانِ على قَوانينِ الأكوابِ، فَإنْ أردتُ أن أتَحَدَّثَ عن الغَارقِ بَينَ السَّكْرَةِ والسُّكَّرَةِ تَبَيَّنَ لي أنَّ كلمَةَ (بَين) تقليدٌ مِنَ التَّقاليدِ اللّغَويَّةِ الرَّثَّةِ التي تُسَمَّى (ظرفَ مكانٍ) وهو وِعاءٌ بِعْتُهُ بأبخَسِ الأثمانِ لأنَّه لا يَليقُ بِفَرطِ أنوثَتكِ التي تُحَرِّضُني منذُ طفولتي على إطلاقِ سَهمٍ طائشٍ يَنفرُ مِن كنانةِ الرَّتابَةِ ليَكسِرَ جَرَّةً أخرى مِن تلك الجِرَارِ التي يطوفُ بها الهَوَسُ خارجَ أعرافِ الأوعية!
أيَّتُها الأنثى..
حينَ تَهزِّينَ خلايا الأسئلةِ يصيرُ العبيرُ مَشيمةً يَتَخَلَّقُ فيها الحرفُ التاسعُ والعشرون، ويصيرُ اللَّيلُ همسةً تُدلي بها حَفْنَةُ البُنِّ فتَتَلقَّفُها مَرافئُ اللَّهجةِ العَروسِ ويَخْتَمِرُ شَجَنُ الأريافِ تحتَ بَشَرَتي وتَبسطُ التَّوابيتُ مَرَّةً أخرى عَباءةَ جَدِّيَ الرَّاحِلِ لأستَنشقَ انزياحَ الشِّعرِ ولأستَلهِمَ كيف تَلتَقِمُ الحَوَاسُّ طَوعاً
ما انفَرَطَ مِنْ رَهبَانِيَّةِ الطِّيبِ حينَ يُؤنِّثُ إنشاداً عَريقاً عالقاً بانتِفاضِ الغَريزة!
كانَ جَدِّي يمشي مُتَّكِئاً على عصاه وكنتُ أحشرُ جَسديَ الصَّغيرَ في عباءته أثناء مَشيِهِ فَيَضحَكُ ويقول:
(اخرج يا فهيد)
لم يَكُنْ ذلك الرَّجُلُ الكَفيفُ يَعلَمُ أنَّ حَفيدَهُ الصَّغيرَ يَنقادُ غريزيّاً صَوبَ قصيدةٍ كامِنَةٍ في تلكَ العباءةِ، وكما يُمَزِّقُ الشَّاعرُ أوراقَه حينَ تعاندُه قريحتُه كنتُ أنا حينَ أتوغَّلُ في شَغَبِ طفولتي أسحَبُ عباءةَ جَدِّي من على كتفيه وأهربُ بها حتى أستَنشِقَ الطِّيبَ وأبحَثَ عن السِّرِّ الذي انتظرني عَشَراتِ السِّنين!
لم يكن الرَّجُلُ الكَفيفُ يَعلَمُ أنَّ حَفيدَهُ الصَّغيرَ سيَصيرُ شاعراً يَسبَحُ ضِدَّ تَيَّارِ الأبجَدِيَّاتِ حتى يَتَفَتَّقَ أمامَ عينيه مَخاضُ المواعيدِ عِن أنثى تَزعُمُ أنَّها تُريدُ صَقلَ مَفاتِنَها بِضَبْحِ الخَيْلِ!
والحَقُّ أنَّها تُريدُ أن تُلَقِّنَني دَرساً مَفادُهُ:
((لا تَقلِبْ ساعةً رَملِيَّةً حتى تَعرفَ كم مَضى مِنَ الوقت!
حَسبُكَ أن تُراقِبَ حَوَّاءَ تُرضِعُ طفلاً لتَعلَمَ أنَّها فتنةٌ تكنِسُ الأزمنة!
فيما يَقضِمُ الشَّاعرُ أظافرَه مُنتَظراً قصيدةً يَتيمَةً تليقُ
بفِتنةِ حوَّاء ..
وهيهات!))
أيَّتُها الأنثى ..
بَنَيتُ بألف ورقةٍ إيواناً للقريحةِ فازدادتْ به وحشتُها حتى تَمَثَّلَ الفيضُ نَصلاً يَشُقُّ حقائبَ الأريجِ عَن سَيِّدةٍ تَتَّخِذُ الأسحارَ خلخالاً وتَنقُرُ بأصداء رَنينِه تُخومَ الغواية!
عندَ هذا المُنعَطَف ..
يَفُكُّ الشَّيطانُ عُقدةً واحدةً مِن عُقَدِ الوسوسةِ حتى يَستَدرجَ الشَّاعرَ صَوبَ شَهقَةٍ برزخيَّةٍ تُبلِّلُ شَطرَ الذَّاتِ وتصعَدُ بشَطرِها الآخر إلى شُرفَةِ الأفعالِ المُضارعةِ لتُشاهدَ القصيدةَ وهي تَنامُ قَريرةَ العَينِ في أحضانِ (عُرقوب)!
هكذا ينطوي القِرطاسُ على خَرَسِ الشَّاعرِ فَتَنامُ الكلمةُ في العَرَاء!
ويبحثُ المدادُ عن ثقبٍ صغيرٍ في حنايا المحبرة حتى يَتَسرَّبَ جَزَعاً مِنْ وَخَزَاتِ القلمِ الأرمل!
** **
- فهد أبو حميد
Hssh7777@htmail.cm