في الخمسينات من القرن الماضي كان الفلاَّح الفقير يقيم احتفالاً لولده إذا حاز شهادة الابتدائية، فهو يرى أنه أصبح رجلاً وبالإمكان تزويجه أيضاً!. ويبقى ذلك الفلاَّح في علاقته الحميمية الخالدة مع الأرض، يكدح فيها من الفجر حتى المغرب دون كلل، بالرغم من أنه لا يحصل سوى على عشر منتوجها، لأنه لا يملكها!.
تلك الحميمية تجاه الأرض «شبه غريزة» اكتسبتها الأجيال عبر آلاف السنين من التطور. أما الولد الذي حاز الابتدائية وتزوج، سيجد قطعة أرض أخرى؛ وربما جديدة؛ ليستصلحها ويزرعها ويحبها ويلتحم روحياً معها ليستكمل المسيرة أفضل من أبيه، حتى لو لم تكن تلك الأرض ملكاً له!. إنه يرى فيها الحياة كلها؛ الرزق والعائلة والحب والفرح والحزن والنجاح والإخفاق والوطن والملاذ...الخ. ولكن تلك الحميمية ليست موجودة لدى الأجيال الجديدة في عصرنا، وكأن هناك انقطاع «قيصري» لتلك المسيرة الطويلة. وهذا الانقطاع لا يخص بلدنا وحسب، بل تجده في كل بقاع الأرض!. لماذا؟
لقد حققت الثورة الصناعية في عصر النهضة، ما لم يستطع تحقيقه «جلجامش»؛ بعد عثوره على «شجرة الخلد!»؛ ولكنها قتلت فينا الانتماء إلى الأرض أو «الوطن». كم هو مؤلم أن تجد أخاك أو ولدك قد هاجر أو على وشك، وليس لديك «شبه حجة» لإقناعه بالعدول عن رأيه!. فلا الانتماء للأرض مقنع؛ ولا الانتماء للعائلة مقنع؛ بل لا وجود أي نية عند الغالبية من الأجيال الجديدة لإنشاء عائلة!.
لقد أنعم الله سبحانه على البشرية بالعلم واستغلال ثروات الأرض، ولكن بني البشر استبدلوا الأرض بالانتماء للمال. وأصبح إنتاجهم ليس من أجل الازدهار، بل لتضخيم المال، وكل فرد من الأجيال الجديدة لا يفكر إلا بذاته كفرد.
كانت الأرض تبث فينا «لُحْمَةٌ» عظيمة، تجعلنا وِحدة واحدة لا تنفصم، فكلنا ينتج ليس لذاته وحسب، إنما «مع الآخر ومن أجل الآخر»، بينما تتربى الأجيال الجديدة على كره الآخر؛ والغدر بالآخر؛ وقتل الآخر إذا لزم الأمر؛ لأنه لا يوجد أمان!. فقد أصبح الآخر منافساً على الوظيفة، أي لقمة العيش. وأصبح الزواج وتكوين عائلة معناه: أطفال وجوع والتزام!، ولا يوجد ضمان لحياة الفرد ذاته، كيف إذن لحياة أولاده؟
قد يتراءى لكل فرد فينا نحن الأجيال القديمة؛ كل في موقعه؛ أنه هو السبب في تفكك اللحمة العائلية والاجتماعية، ولكن علم الاجتماع يؤكد أن 20 % من التربية يقع على عاتق العائلة الصغرى، و80 % على عاتق المجتمع. بالتالي مهما حاولت أن تكون أباً صالحاً، لا يمكنك أن تربي أولادك كما ترغب.
** **
- د . عادل العلي