الثقافية - محمد هليل الرويلي:
«نام نومة هنية.. نومة الغزلان في البرية..»، و«وقف وقف هللو.. طال السقف هللو..»، و«قوم يا شويب عن التنور.. سري عايب ما آقدر آقوم..»، ويكأن انبلاج فمك ضاحكًا تقهقه برهافة الريش تتمايل وتقفز وتصفق طروبًا يا أعرابي، ويكأن ذلك كله ما ينبئ عن سرورك، وأن وقعه لامس أشجان فجرك الغرور من صباك؟!
شهدنا ذلك بعد أن أسمعناك أغاني تنويم أطفالنا وتعلمهم المشي. إذا استمع الهنيهة هذه الأغنية التي لا تقال سوى بمناسبة استقبال شهر الصوم الفضيل. وطالما أننا مقبلون على استطلاع هلول هلاله، بعد ليلة أو ليلتين من ليلتنا هذه الموافقة للتاسع والعشرين من شهر شعبان «حياك الله يا رمضان.. أبا القرع والبيديان»، من الواضح إذ إنه ليس لديك أي خلفية تذكر عن أغانينا في العيد، وأغاني التهليل لنزول المطر، أو «القيرقاعون»، أو أغاني دق الحب، وجر السفينة من البر إلى البحر التي يمارسها البحارون خلال فصل الصيف لصيد اللؤلؤ «شد الشراع والميداف».
واسمع هذه كذلك: «بالله بالله بالله آه.. يا عزّتي والهوى ويلاه.. ماني على الهضم صبار آه.. والله المحبّة بلاوي آه»، هل تعلم يا أعرابي ما اسم هذا الفن ومن يقوم بغنائه؟ سجل أن هذا الفن اسمه (فن الخمّاري)، تغنيه النساء في الأعراس ومناسبات الفرح السعيد في ركح من جنباتنا.
ثم تعال يا أعرابي نتخطى تلك التصوينة ونجلس.. إن كنت تصطان القول ارعنا أذنك لحديث غير منجوش دوِّنه جيدًا في رقيمك الرجل العلسي مثلك ليس بحاجة لوصاية. دونّاك روايتنا وقصتنا ولو أن الزمان والمكان فسحا لزدناك لكن دونك ما يمكننا ويمكنك. فما بين أرخبيلات بحريننا أسرار البدع والقضايا الأثيرية..
التجربة الروائية في البحرين
كشف الأمين العام لأسرة الكتاب والكاتب الناقد البحريني الدكتور فهد حسين أن الرواية البحرينية عانت الكثير من قبل نظرة الآخر العربي والأجنبي إليها، مستشهدًا -بالقول السابق- لأحد أساتذة جامعة البحرين العرب إِذ قال بالحرف الواحد هل توجد رواية بحرينية؟ وقال «حسين»: قد تكون طموحاتنا في البحرين أن يكون عدد كتاب الرواية في ازدياد وهذا ما لاحظته في السنوات العشر الأخيرة تقريبًا، ولكن هذا الكم هل ما يقابله منجز يتصف بالنوعية والقيمة الجمالية والفنية، إِذ هل هناك وعي تجاه الوظيفة الجمالية التي تتميز بها الرواية البحرينية؟ هل هناك اهتمام بالبعد الثقافي والمعرفي في بناء عالم الرواية، وبخاصة إذا آمنا أن الموهبة غير كافية لكتابة عمل إبداعي إذا ما يتكئ على المتخيل والدربة والمعرفة واللغة والوعي والثقافة، كما أن الرواية في عصرنا الحاضر لم تعد محصورة في مكوناتها السردية من شخصية ومكان وزمان وأحداث، بل خرجت من هذا الإطار إلى الاهتمام بجمالية هذه المكونات لتكون تقنيات كتابة روائية، وهذا ما يأخذنا إلى سؤال الرواية نفسها، هل هي مطمئنة لدورها الإبداعي والثقافي في المجتمع؟ أي علينا أن نعي إن كانت الرواية البحرينية استطاعت أن تضبط حدودها التجنيسية، وهو ما يتطلب وعيًا من قبل كاتب الرواية.
وضوح الملامح الأدبية والصحافة
وتابع: وفي الوقت الذي كان للصحافة العربية ومن ثم البحرينية في الحياة الأدبية والثقافية في أربعينيات القرن الماضي بدءًا بجريدة صوت البحرين التي أسسها عبدالله الزايد في العام 1939، فإن الملامح الأدبية في البحرين لم تكن واضحة المعالم إلا في فترة الخمسينيات من القرن نفسه، وعليه استفاد كتاب النثر كثيرًا كما استفاد كتاب الشعر من النشر في الصحافة آنذاك ما يجول في فكرهم، إِذ كانت البدايات الأولى في الحركة الأدبية هي القصة القصيرة وليست الرواية وهو المعنية بالحديث عنها إِذ حاول بعض الكتاب الدخول في تجربة الكتابة الروائية منذ منتصف الستينيات وهي فترة التكوين الأدبي تحت مظلة التأثير الخارجي، ومن هؤلاء الكتاب محمود المردي الذي نشر رواية له باسم «الذئب»، وخلف أحمد نشر أيضًا رواية «قلوب وجدران» وأصدر فؤاد عبيد «ذكريات على الرمال» هذه التجارب الثلاث هي محاولات كانت مجرد سرد بعض الخواطر بألسنة الشخصيات مع التأثير بالواقع المعيش من دون الاهتمام بالمميزات الفنية الدقيقة لفن الرواية. وفي مجمل هذه التجارب الثلاث كان الهاجس الرومانسي، والحالة الاجتماعية والاقتصادية للإِنسان البحريني الذي عمل في البحر صيادًا بمهنة صيد الأسماك، أو في مهنة الغوص، فضلاً عن قضايا الزواج والطلاق.
وزاد: هناك الكثير من الروايات التي تنحو مناحي متعددة، أي ظهرت ضمن الروايات رواية التسلية والترفيه التي تسعى إلى الاهتمام باختيار الأحداث الغريبة والعجيبة، وما تدور بينها من خرافات وخ زعبلات ومصادفات، وهذا يعني أنها لا تهتم بعامل السببية والحتمية بمعنى أن هذه الأعمال كأنها محاكاة لما هو في العالم العربي آنذاك، إِذ استوحت واستلهمت من المنجز العربي عامة، والمصري على وجه الخصوص غير أن هذه التجارب كانت المحلية بارزة فيها، ومحاولة قدر الإمكان الابتعاد عن السيرة الذاتية، والتركيز على الموضوع الذي كان الحب والعاطفة الجياشة ثيمته، وإن كانت السيرة حاضرة في بعض التجارب بصورة غير مباشرة، مثل رواية «الحصار» لفوزية رشيد.
وإذا كانت هذه التجارب الأولى أثرت على المشهد الأدبي وحفزت الآخرين للدخول في عالم الكتابة الروائية، فإننا نرى عكس ذلك، وبخاصة أن التجارب التي كتبت في الثمانينيات كانت تستند إلى قراءات في الأدب العالمي عامة، والأدب الروسي على وجه الخصوص، إضافة إلى المحاكاة والتجريب نحو الواقعية كما هو عند محمد عبدالملك وعبدالله خليفة، بل أعتقد أن ما يميز كتاب السرد في البحرين أنك لا تجد تأثير أحد على الآخر في كتابته أو تجربته أو حتى في تناول الموضوع، وإنما كل كاتب له خصوصية وثيمات معينة قد لا تجدها عند أحد من الكتاب.
الخروج من الكتابة القصصية للكتابة الروائية
وقد حاول البعض الخروج من محيط الكتابة القصصية إلى الكتابة الروائية مع بداية الثمانينيات، فكتب كل من محمد عبدالملك «الجذوة»، وعبدالله خليفة «اللآلئ»، وفوزية رشيد «الحصار»، وجاء أمين صالح «أغنية ألف صاد الأولى»، وبعقد الثمانينيات يمكننا القول بأن الرواية البحرينية بدأت في الظهور فنيًا وتقنيًا، وذهاب كتاب القصة إلى عالم الرواية للاعتقاد بأن الفن القصصي رغم الطموحات لم يف بالمتطلبات الحياتية والفنية التي يردها الكاتب من نصه، إِذ هناك أبعاد جمالية ودلالات سيميولوجية تعتلج في فكر هؤلاء الكتاب، وفي نظرتهم إلى المجتمع، من هنا اتجهوا إلى الفن الروائي؛ لأنهم يرون فيه الشكل الموسع والفضاء المستوعب لما يردي قوله أو إبرازه.
مراحل نشأة القصة البحرينية وخصائصها
وفي محور التجربة القصصية البحرينية بين الأمين العام لأسرة الكتاب والكاتب الناقد البحريني الدكتور «فهد حسين» أنها لا تخرج عن مسيرة التجربة القصصية في منطقة الخليج العربية، إِذ ارتبط التقدم في القصة البحرينية بالتقدم الثقافي والاجتماعي والحضاري والاقتصادي العام في المجتمع البحريني كله، ظهر من خلال مجموعة (سيرة الجوع والصمت) تسعة أصوات في القصة البحرينية الحديثة، هذه المجموعة نقلت القصة البحرينية إلى مستوى القصة العربية الحديثة.
وقال: هذه النشأة التي برزت عبر أقلام تتنافس بشكل غير مباشر في الكتابة والنشر في الصحف، فأخذت تستأثر كل الاهتمام ولفت الانتباه إلى هذا الفن القادم من خارج الحدود الجغرافية والمكانية، ويحاول أن يستقر في هذه المنطقة، لهذا من تابع أو حاول البحث عن تاريخ القصة منذ نشوئها، وتحديدًا في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي يجد العدد من الكتاب كبيرًا قياسًا بعدد السكان والمساحة الجغرافية وانتشار الشعر.
ومن خلال تتبع كتابة القصة القصيرة في البحرين منذ المحاولات الأولى حتى يومنا هذا، إِذ حاول من كتب عن القصة البحرينية أن يحقب الكتابة والكتاب، وهذا أمر فرضته ظروف الكتابة والمحاولات والتجربة، وهنا أتصور أن القصة القصيرة لدينا مرت بثلاث مراحل قد تتقارب والمراحل التي تصورها الذين سبقونا في التصنيف والتحقيب، وهي: مرحلة التأسيس والتي حصرتها بدءًا من أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، ثم المرحلة الثانية، وهي: مرحلة التشكل والنضج الفني بدءًا من ستينيات حتى تسعينيات القرن الماضي، ثم المرحلة الثالثة، وهي مرحلة الانحسار وانتشار الميديا، التي برزت في الألفية الثالثة.
ملامح القص في البحرين
مضيفًا أن القصة تطرقت إلى حياة الأفراد في المجتمع، والمشكلات الاجتماعية وما تظهر في السلوك الاجتماعي الفرد والجمعي، والتطرق إلى بعض الموضوعات التي كانت ذات أهمية آنذاك، مثل: التعليم - الزواج المبكر - تعليم المرأة - تعدد الزواج - الطلاق - بعض العادات - بر الوالدين - التمسك بالدين - القيم الأخلاقية، ومناقشة أوضاع المرأة المتعددة، مثل: صورة المرأة المتزوجة - المرأة العانس - المرأة المتسولة - المرأة العاشقة - المرأة الخائنة - المرأة المسلوبة.
الأدب الموثق لصراعات الفرد
وأكدت الروائية ليلى المطوع أن الأدب طالما كان عاكسًا للبيئة التي انطلق منها، موثقًا للتغيرات الزمنية التاريخية للفرد الذي يعيش حالة صراع مع كل أمر طارئ دخيل. مضيفة أنه حين نطلع على أمثالة من الأدب البحريني، نجد أن لكل فترة انعكاساتها على قصصه ورواياته. وحتى نفهم هذا الأدب يجب علينا أن نأخذ خواص التركيبة للفرد البحريني الذي تحول إلى كاتب يعبر عن مخاوفه تجاه هذا المستقبل الذي يجهله. فالفرد البحريني اعتاد أن يعيش تحت ظل النخلة، ويزرع الأرض ويحرثها، وأن يركب الموج ويشق أعماق البحار. هذا الفرد الذي يمثل شخوصًا في أعمال قصصية وروائية تبوح بحنينها محاولة الثبات، ضد الحركة، رافضة للتغير، فأدب أهل الجزر يجب أن يكون متشربًا للثقافات، متقبلاً للآخر، مطاطيًا، متأقلما لكن حين نطلع على نماذج منه نجده في صراع دائم مع كل تغيير، غارق في الأسى والحزن، متشائم من المستقبل البعيد، تحدد شخوصه في أبطال خارقين للعادة، يفتقرون للواقعية، يتسم بالوعظ القصصي، والتعليمي للجيل الجديد الرافض لهذا الخيال الأخلاقي الذي لا يتسم بالواقعية.
الصراع ضد الاستعمار*
وأضافت: كما تحول الأدب لمرجع يوثق لنا حالات الصراع ضد الاحتلال، والقضايا العربية التي ألهمت الكتاب وأثارت عروبتهم، فهم في حالة تأهب ضد العدو رغم اختلاف ملامحه وتبدل صفاته، لكن العدو يمثل لهم استمرارية البقاء والحفاظ على خلق البطولات وإن كانت وهمية، فالجيل الذي نشأ على الأفلام وأدب الوعظ ومديح كبار السن نحو الشاب الذي يتظاهر ضد العدو، الشاب الذي يرمي نفسه ويقاتل ببسالة، حتى لو اضطر للتخفي، والتمثل في حالة انفصام عن واقعه وواقع البطولة ونجدها في قصة «وجهان وفأر مذعور»، لخلف أحمد. كما أن من بين الأمثلة لهذا الأدب ما يعكس حالة شخوص استسلمت في نهاية الأمر، وانشغلت في المتع البسيطة التي تشغلها عن التفكير في المستقبل، أو تكون مفرطة في البطولة «الحصار» لفوزية رشيد، أو في أعمال مثقلة بالوعظ والخطاب الثوري كقصة «الرجل» لعبدالله خليفة.
ضد المد العمراني*
و»تتابع»: كما حرص الكتاب على توثيق الأحياء السكنية والمدن الجديدة، بعد أن كانت القرى تضم عوائل محددة منذ الأجداد إلى الأبناء، صارت هذه المدن تجمع العوائل على اختلافها، وتمزج هواياتها ما بين الفلاح والعامل في المصانع والبحار وغيرها من طبقات المجتمع، ومثال على ذلك رواية «الدفنة» لفواز الشروقي، ورواية «متاهة زهرة»، لحسين علي، ورواية «الأقلف»، لعبدالله الخليفة. وفي الصراع ضد تبدل مصادر الدخل نجد أن الشخوص في الأمثلة المقدمة دائمًا حزينة على أرضها التي تخلت عنها وباعتها رغم تعدد الأسباب، الزوارق التي بيعت للنوخذة، اضطرارهم لترك البحر والتعلم استخدام الآلات الحديثة، والتهام المد العمراني للمساحات الخضراء، وضياع الحرف واستبدالها بالعمال الآسيويين، كشخصية الشيخ مصطفى في رواية «الحصار»، وفي قصة «آخر سفينة» لمحمد عبدالملك حين قال: «زمن الغوص انتهى وتوقفت آخر سفينة»، إضافة لقصته الأخرى «موت صاحب العربة» حين قتلت الرأسمالية الحمال العجوز الذي يكابد أحزانه ووحدته ويواصل العمل بحثًا عن لقمة العيش، ويموت وحيدًا وتترك جثته لتتعفن في حين يستولي الأطفال على عربته «وهم يمثلون المستقبل هنا» غير عابئين لهذه التغيرات، ومعاناة الجيل الذي نشأ على الصمود والصفات الأخلاقية المبالغ فيها. إن في هذه الأعمال رفضًا للآلة والمصانع لأن الفلاح والبحار اعتاد أن يكون وقته موسميًا، لكن المصانع كانت تحدد الوقت بعقارب الساعة، والإنتاجية يحددها استغلال الوقت لآخر ثانية فصار الإِنسان كالآلة يعمل بتنظيم لم يعتد عليه.
وزادت: إن الجيل القديم أخذ في التلاشي من المشهد تدريجًا، إِذ ينتظر الدعم مثلما ينتظر فلاح المطر كل عام، لكن نجد أن الجيل الشاب اليوم أخذ في تصدر المشهد الثقافي ويمول أعماله بنفسه. هو على استعداد تام أن يعمل ليدفع ثمن طباعة روايته، فالكتابة هي شغفه الذي لا ينتظر من أحد أن يدعمه أو يساعده، ولكن نجد أن الأعمال تشبعت في الشعرية، وأخذ الصراع منحنى واحد وهو صراع العاطفة، وضاعت حبكة الأعمال في لغة شعرية متكلفة، رغم أن هناك محاولات تنبؤ أن هذا الجيل يتعثر وينهض من دون البحث عن ذراع تساعده.
الموسيقى في البحرين.. أثراً قديماً باقياً قادماً
في جانب علاقة الإِنسان البحريني بالموسيقى أو فن الغناء، فأوضح الأستاذ المساعد بجامعة البحرين، ومدير مهرجان البحرين الدولي للموسيقى -السابق- المؤلف الموسيقي الدكتور «عصام الجودر» أن علاقة الإِنسان بالموسيقى وفن الغناء في البحرين قديمة، تصل جذورها إلى حضارة «دلمون»، إلاّ أن الآثار والشواهد المادية والملموسة والحية - الصوتية على وجه الخصوص - التي وصلت إلى أيدينا وآذاننا هي ما تركه لنا الروّاد من بدايات القرن العشرين، إِذ بدأ التعليم في المدارس - مدرسة الهداية 1919 للبنين، ومدرسة خديجة الكبرى 1928 للبنات، ثم تلا ذلك توافر الفونوجراف، وبدايات الصحافة - جريدة البحرين التي أسسها عبدالله الزايد في الثلاثينيات من القرن العشرين - وتأسيس الإذاعة في عهد الشيخ حمد بن عيسى سنة 1940، وفي مرحلة لاحقة التلفزيون (1973) وكان أول تلفزيون بالألوان الطبيعية في المنطقة. كما أن للسبعينيات كان لظهور الكاسيت دوراً كبيراً في انتشار فن الأغنية لدى كافة شرائح المجتمع.
وقال: إن ما يدُل على ولع وشغف المجتمع البحريني بالموسيقى والغناء، هو أنه لا يقتصر فقط على ممارستها عبر الاستماع، بل أيضاً من خلال ممارستها وغنائها. والممارسة هنا تبدأ من الطفولة بأغاني المهد تنشدها الأم لابنها أو لابنتها، وأحياناً يقوم بالمهمة الأخت الكبرى أو الخالة، أو الجدة. ونلاحظ هنا أن الغناء للطفل تغنيه المرأة وليس الرجل. سواء كانت أغاني تنويم «نام نومة هنية.. نومة الغزلان في البرية.. الخ»، أو تعليم المشي «وقف وقف هللو.. طال السقف هللو.. الخ «، أو تنطيق الطفل، أو تشجيعه على تناول الطعام. ثم تأتي مرحلة غناء الأطفال بأنفسهم وهنا تنقسم الأغاني إلى نوعين، أغاني ألعاب أي أن الأغنية تصاحب لعبة معينة مثل «قوم يا شويب عن التنور.. سري عايب ما أقدر أقوم.. الخ «. أو أغاني ترتبط بمناسبة معينة مثل استقبال شهر رمضان المبارك «حياك الله يا رمضان.. أبا القرع والبيديان»، أو لاستقبال العيد، أو التهليل لنزول المطر، أو «القيرقاعون»، وغيره من أغاني.
و»أضاف»: كثيراً ما تصاحب الأغاني الإِنسان البحريني أثناء مزاولته عمله تخفيفاً عن تعبه وفي أحياناً أخرى لضبط إيقاع العمل الجماعي - كما في أغنية «الميداف» أي التجديف الجماعي - سواء كان ذلك في البحر أو في البر. فهناك أغاني دق الحب، وأغاني جر السفينة من البر إلى البحر. وأكثر الأغاني جمالاً وتشويقاً هي التي يمارسها البحارون الذين ينزلون البحر خلال فصل الصيف لصيد اللؤلؤ. وهي أغاني عمل ثرية من حيث الإيقاع، وكل عملية لها أغنيتها الخاصة، فمثلاً هناك أغنية لسحب الخراب «حبل المراسة»، وأغنية لرفع الشراع العود «الكبير» وأغنية لرفع الشراع الصغير «الجيب»، وأغنية «للميداف، المجداف»، في حال تعذر وجود رياح قوية لدفع السفينة عن طريق الشراع. وقد كان لثراء أغاني البحارة هذه، أن استمروا في أدائها على البر في الدور الشعبية، مستقلة عن المهنة الشاقة وبعيدة عنها. ويطلق على هذا النوع من الفن «لفجري» ووظيفته هو الترفيه عن البحارة في غير وقت صيد اللؤلؤ، وقد أدى الاستقرار في أدائها على اليابسة في الدور الشعبية إلى تطويرها وابتكار صيغ أخرى لا تمارس على ظهر السفينة بل داخل الدور فقط، كما أدخلوا آلات إيقاعية أخرى وزادوا من عددها. ويطلق على أحد هذه الفنون «بحري» والذي يبدأ به البحارة في غنائهم لفن «لفجري»، وأحد نصوص هذا الفن هي «دنيا امكيده خلاف الطيب كفتني.. والنذل بيده كيدني وكفتني.. الله لحد يوم دهري كيف كفتني.. الخ».
المرأة البحرينية تغني
وتابع: كما أن للمرأة كان لها نصيب وافر من ممارسة الغناء فهناك أغاني «المراداة»، وأغاني الأفراح مثل فن الخمّاري «بالله بالله بالله آه.. يا عزّتي والهوى ويلاه.. ماني على الهضم صبار آه.. والله المحبّة بلاوي آه»، وكذلك أغاني دق الحب النسائية. إن هذه الفنون مجتمعة نراها تُمارس جماعية في معظم الأحيان، ويكون هناك مغني رئيسي في بعض الأحيان خاصة في أغاني البحارة، حيث يطلق على المغني الرئيسي في ظهر السفينة «نهّام»، وعادة يكون هناك اثنان أو ثلاثة، أما أغاني البحارة داخل الدور الشعبية فيطلق على المغني الرئيسي «حدّاي»، وأيضاً يكون عددهم هنا ما يقارب الثلاثة.
بدءاً من الثلاثينيات بدأت الأغنية التقليدية تنمو وتتشكل على روّاد زرعوا البذرة الأولى لتنتج تراثاً مازال يصدح في قلوب وآذان محبيهم. ومن أبرز هؤلاء الفنانين محمد بن فارس (1895 - 1947)، وضاحي بن وليد (1895 - 1941) ومحمد زويد (1900 - 1982) الذي كان أول من سجل ألحانه بصوته على اسطوانات في بغداد (1929). وكان فن «الصوت» هو السائد، وما ساعد على تثبيت أقدام هؤلاء الفنانين هو عملية تسجيل إنتاجهم وبثه في الإذاعة، بعكس من سبقهم الذين لم يتسن لهم تسجيل إنتاجهم وتوثيقه. من الجدير بالذكر أن هؤلاء الرواد الثلاثة كانوا يغنون أهم وأجمل القصائد العربية من الشعر العربي القريظ، لأسماء مهمة مثل المتنبي، البهاء زهير، عنترة العبسي، صفي الدين الحلي، أحمد شوقي ولفيف من ألمع الشعراء. ومن نصوص البهاء الزهير التي شدا بها محمد بن فارس في أحد أصواته «لئن بحتُ بالشكوى إليكَ محبَبة.. فلستُ لمَخلوقٍ سواك أبُوحُ.. وإنَّ سُكوتي إن عَرّتني ضرُورةٌ.. وكتمانَها ممّن أُحبُّ قبيحُ..»، أما النصف الثاني من الخمسينيات وحتى الستينيات فقد ظهر عدد كبير من الفنانين الذين لم يقتصروا على أداء فن الصوت بل أيضاً فن البستة، والخمّاري، وغيره من فنون، ومن أبرز هؤلاء الفنانين يوسف فوني، ومحمد علاّية، وعبدالله بوشيخة، وعلي خالد، وأحمد خالد، وعبدالواحد عبدالله وغيرهم.
خلال السبعينيات تفتحت قريحة الفنانين للتوغل أكثر عُمقاً في تلحين الأغاني وذلك من خلال اهتمام بعضهم بصقل موهبته بالدراسة «أحمد الجميري»، كما تم تسجيل إنتاج هذه الحقبة من الفنانين أعمالهم في أبرز الأستوديوهات في جمهورية مصر العربية، وبعزف نخبة من العازفين الماهرين. ومن أهم هذه الفترة من الفنانين أحمد الجميري، محمد علي عبدالله، إبراهيم حبيب وغيرهم.
في الثمانينيات ظهرت تجارب جديدة ومتنوعة وكان أكثرها تميزاً هي تجربة خالد الشيخ وهو الذي استطاع أن ينقل الأغنية البحرينية من المحلية إلى العربية.
أما على صعيد الشأن الموسيقى الثقافي فقد تم افتتاح معاهد موسيقية خاصة لتعليم الموسيقى، كما تم ابتعاث العديد من الراغبين لدراسة الموسيقى إلى الكويت ومصر، ليسهموا في حقل الموسيقى من واقع الموهبة والدراسة، إما بالعزف في الفرق الموسيقية أو العزف المنفرد، أو بالغناء المحترف، أو بالتأليف الموسيقي الحديث، أو التوزيع الموسيقي، كذلك أسهم العديد منهم في مجال التدريس في المدارس الحكومية، وغيره من مجالات موسيقية أثبتوا قدراتهم وتميزهم.
النهضة الموسيقية في التسعينيات
وحدث في التسعينيات نهضة موسيقية ثقافية تمثلت في تأسيس مهرجان البحرين الدولي للموسيقى (1992) إِذ كان فكرة وإدارة كاتب هذه السطور، والذي كان يُعد رائداً وفريداً على صعيد المنطقة، أسهم في إتاحة الفرصة للفنانين البحرينيين بتقديم إبداعاتهم في مجال العزف والغناء والتأليف الموسيقي العربي والغربي. كما شارك في المهرجان العديد من الفنانين والفرق الموسيقية من دول المنطقة العربية والعالمية، ما ساعد على تبادل الخبرات وتلاقحها. وكان أيضاً لتأسيس الفرق الموسيقية المحترفة مثل «فرقة البحرين للموسيقى» التي تقدم الأغاني البحرينية والعربية، الحديث منها والقديم. كما تأسست فرقة محمد بن فارس التي تعنى بالأغاني التراثية. وبالإضافة إلى العروض المنتظمة للفرقتين في البحرين، شاركت كلتا الفرقتين في المحافل العربية والدولية.
تبقى الأغنية جزءاً متأصلاً في حياة الإِنسان البحريني ومصاحباً له عبر العصور، فكانت وظلت أثراً خالداً يعبر عن خلجاته وأحلامه وطموحاته، وهي الأغنية كثيراً ما ساعدت على التخفيف من أحزانه وواسته في محنه بل أدخلت في نفسه الفرح عندما تحاصره الصعاب من كلِّ صوب.