من أجل هذا نقول إن مفكرنا الكبير كان فيلسوفًا مصلحًا بشر بفلسفة القوة والنهضة والأمل وبعث الحيوية والصحوة في الأمة الإسلامية، بل تعدى تأثيره أمة الإسلام ليؤثر في الفكر العالمى، دعاه الملك الأفغانى نادرخان إلى كابول ونزل ضيفًا عليه فأهدى إليه إقبال نسخة من القرآن الكريم وقدمها إليه قائلاً: «إن هذا الكتاب رأس مال أهل الحق، في ضميره الحياة، وفيه نهاية كل بداية، وبقوته كان على فاتح خير، فبكى الملك وقال: «لقد أتى على نادرخان زمان وما له أنيس سوى القرآن، وهو الذي فتحت قوته كل باب» (6).
انطلق إقبال في فلسفته إذن من الذات ليؤكد حرية الإرادة والمسؤولية الفردية في مواجهة فلسفات الضعف والخنوع والاستسلام باسم القدر والجبر في ذات الوقت الذي يؤكد فيه ارتباط الفرد بالمجموع ويرى «أن الانتقال من نطاق الفردية إلى نطاق الجماعة أو المجتمع لا يتم إلا بالعمل والكفاح». «إن التواصل بين أفراد المجتمع لا يمكن أن يتحقق إلا بالعمل والحركة لا الكسل والخمول، إن هذا الكفاح والعمل ينقلنا من الفوضى إلى النظام».(7)
وكما انتقد إقبال الفلسفة اليونانية القديمة وقام بتقييم تفاعل الفرق الإسلامية والمتكلمين معها وتأثرهم بها أحيانًا نراه يقف موقف الناقد البصير من الفلسفة الغربية المعاصرة فيجادل شهوبنهاور ويرد عليه وعلى القائلين بعبثية الوجود ويؤكد أن الوجود لغاية سامية وأن الموت ليس نهاية المطاف ويثور إقبال ويشتعل غضبه فيوجه كلامه إلى أصحاب هذا الاتجاه قائلاً: ويحكم!.. أمن المعقول أن يخلقنا الله عبثًا؟ أمن المعقول أن تظل الشمس والسموات والأرض مدى الدهر وطول الأبد، ثم نندثر نحن بهذه السرعة فلا تقوم لنا قائمة بعد ذلك؟(8).
ولجهد إقبال الكبير وطول باعه في استيعاب وتمحيص ونقد الفلسفات القديمة والحديثة كان حريًا بمكانة عالية وقدر عظيم وسط فلاسفة العالم قديمه وحديثه على السواء. يقول الدكتور عاطف العراقى: «وإذا كان إقبال قد اهتم اهتمامًا رئيسيًا في مؤلفاته ورسائله بقضية التجديد، فإنه يمكن القول بأن نقطة البداية في فكره الفلسفي حول التجديد؛ إنما تتمثل في الذاتية. إن بداية التفكير نحو قدرة الله في ذات الإِنسان. فمن عرف نفسه عرف ربه. لقد أراد محمد إقبال إن يبدأ الطريق من ذاته بحيث ينطلق إلى الله تعالى. فالله غاية الغايات ومنتهى الآمال» (9)
بلغ شاعرنا محمد إقبال أن أحد أصدقائه القرشيين مفتونًا بالفلسفة وقد أثرت فيه تأثيرًا كبيرًا حتى زلزلت عقائده زلزالاً شديدًا.
فكتب إليه يقول في إحدى قصائده: أنا رجل كما تعرف أرجع في أصلى إلى « سومنات» المعبد الوثنى المعروف في الهند. وكان آبائى من من عباد اللاة ومناة. وإن أسرتى عريقة في البرهمية.. وأنت تجرى في عروقك دماء الهاشميين وتنتمى إلى سيد الأولين والآخرين. وقد امتزجت الفلسفة بلحمى ودمى، وجرت منى مجرى الروح، ورغم ذلك كله فإنى أقول: إن الحكمة الفلسفية ليست إلا حجابًا للحقيقة، وإنها لا تزيد صاحبها إلا بعدًا عن صميم الحياة وإن بحوثها وتدقيقاتها تقضى على روح العمل؛ هذا هيجل الذي تبالغ في تقديره إن صدفته خالية من اللؤلؤ..، وإن نظامه ليس إلا وهمًا من الأوهام.. لقد انطفأت شعلة القلب في حياتك أيها السيد، وفقدت شخصيتك فأصبحت أسيرًا لـ « برجسون». إن البشرية تريد أن تعلم كيف تتقن حياتها، وكيف تخلد شخصيتها، إن بنى آدم يطلبون الثبات، ويطلبون دستورًا للحياة ولكن الفلسفة لا تساعدهم على ذلك... إن المؤمن إذا نادى الآفاق بأذانه أشرق العالم واستيقظ الكون. إن الدين هو الذي ينظم الحياة، وإنه لا يكتسب إلا من إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام، ومن الغريب أن من اقتنص أشعة الشمس لم يعرف كيف ينير ليله، وأن من بحث عن مسالك النجوم لم يستطع أن يسافر في بيدأ أفكاره.(10)
وفي آخر رحلته مع الحياة وقبل وفاته بستة أشهر كانت زيارة أبى الحسن الندوى لإقبال في لاهور في السادس عشر من رمضان سنة 1356 هـ الموافق الثانى والعشرين من نوفمبر سنة 1937م ومن بين ما حكاه عن هذه الزيارة ونقله عنه قول إقبال عن الفلسفة: «إن علوم الطبيعة تلتقى مع الإسلام على الجد والعمل والبعد عن البحوث الفلسفية التي لا جدوى فيها، وقد ظلت هذه الروح متغلغلة في المجتمع الإسلامى قرنين وقد بقى متمسكًا بالعقيدة والعمل والسيرة والخلق حتى طغت عليه الفلسفة الإغريقية؛ وتحدث عن الفلسفة الإلهية، وكيف شغلت الشرق واستهلكت قواه، وذكر أن أوروبا إنما نهضت وملكت العالم لما ثارت على هذه الفلسفة أي فلسفة ما بعد الطبيعة، وبدأت تشتغل بعلوم الطبيعة المجدية المنتجة، ولكن قد حدث وثار من المسائل في هذا العصر ما يخاف معه أن ترجع أوروبا القهقرى، وذكر أن العقل العربى كان أقوى على إساغته الإسلام إساغة صحيحة وأجدر بحمل أمانته».(11)
** **
- عبد اللطيف الجوهري